سلايدر

كلمة أبو الغيط أمام مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري

استمع

معالي السيد محمود علي يوسف

​​​وزير الشئون الخارجية والتعاون الدولي لجمهورية جيبوتي

أصحاب السمو والمعالي الوزراء،

أصحاب السعادة السُفراء،

السيدات والسادة،

اسمحوا لي في البداية أن أتقدم بخالص التهنئة لمعالي السيد محمد علي يوسف، وزير الشئون الخارجية والتعاون الدولي لجمهورية جيبوتي على تولي بلاده رئاسة أعمال الدورة 148 للمجلس الوزاري مُتمنياً كل التوفيق والنجاح لأعمالها، كما أتقدم بالشكر لمعالي الوزير عبد القادر مساهل الذي قاد أعمال الدورة المنقضية بكل اقتدار ومهنية وحكمة.

السيد الرئيس،

لقد خيمت أحداث صعبة على أجواء انعقاد مجلسنا خلال الفترة الماضية .. ولا يُعد هذا غريباً في ظل الظرف الاستثنائي الذي تمر به منطقتنا.. والذي أصحبت تبعاته حاضرة وظاهرة في أحوال السياسة والاقتصاد والمجتمع على حد سواء … واقتناعي الراسخ أن الظروف، مهما بلغت صعوبتها لا ينبغي أن تُدخلنا في دوامة اليأس، أو أن تعصف بما بقي في نفوسنا من أمل وتطلع مشروع إلى غد أكثر أمناً واستقراراً وازدهاراً .. إن التحديات، بل والمحن والشدائد، لا ينبغي لها أن تحرف أبصارنا عن رؤية بعض من أشعة النور التي تنبعث هنا وهناك في أركان عالمنا العربي.. هذه الأشعة، على ضعفها وخفوتها، هي الأملُ الباقي لدينا في الخروج من هذا النفق المُعتم الذي انزلقت إليه المنطقة في السنوات الأخيرة.

من أشعة النور ما يجري في العراق بالذات من دحر التنظيمات الإرهابية وسحقها .. منذ عامين فقط كانت داعش تحتل نحو ثلث مساحة العراق، واليوم  ولله الحمد فقد خسرت أكثر من 90% من الأراضي التي كانت تُسيطر عليها.. إن ما تحقق هو بلا شك إنجازٌ يُحسبُ لكل من شارك فيه من رجالات العراق.. نُهنئهم عليه، ونشد علي أياديهم.

ولكن لا يكفي أن تُجتث داعش من مدننا .. بل يتعين العمل، في أسرع وقت، على إعادة الحياة إلى طبيعتها في هذه المدن من أجل استعادة الاستقرار .. إن هناك نحو 700 ألف من النازحين من الموصل، الذين لن يعودوا لبيوتهم قبل نهاية العام الحالي .. والعدد أكبر بكثير فيما يخص المحافظات والمدن الأخرى، الأمر الذي يتطلب دعم الجهود الدولية والعربية التي تُبذل على الصعيد الإنساني في المشرق العربي؛ سواء من أجل إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار في العراق، أو من أجل دعم اللاجئين وتقديم المساعدة للسُكان المدنيين فيما يتعلق بسوريا، وبخاصة اللاجئين في لبنان والأردن.

إن القضاء على داعش هو بداية .. بداية استعادة الوطن بعد استرداد الأرض.. الوطن إيمان بالمصير الواحد ووعي بالماضي المشترك واستعداد للتعايش من أجل العبور إلى المستقبل .. أثق في أن العراقيين، بعدما نجحوا في اختبار التحرير، سوف ينجحون في اختبار التغيير .. لا يكفي استئصال شأفة داعش، وإنما يتعين مواجهة الظروف التي خلقتها من الأصل.. ينبغي أن يكون هذا الانتصار فاتحة فصل جديد في تاريخ الجمهورية.. فصل تكتبه كافة مكونات الدولة العراقية.. بلا إقصاء أو استثناء أو نبذ .. فصل عنوانه الحفاظ على الوطن بكيانه وحدوده ووحدة ترابه .. أكرر: فصل عنوانه الحفاظ على الوطن بكيانه وحدوده ووحدة ترابه.. إن العرب يمدون أيديهم إلى إخوتهم الأكراد .. إنني استشعر رغبة صادقة في بقاء الأكراد كمكوِّن أصيل في المجتمع العربي، سواء في العراق أو في سوريا.. ولعلكم تعلمون أنني قُمتُ بزيارة يوم السبت الماضي إلى كل من بغداد وأربيل في محاولة للحفاظ على قنوات الحوار مفتوحة بين الجانبين، والعمل على تعزيزها .. وأقول بكل الصدق إنني لمستُ فجوةً في الثقة بين الحكومة المركزية والإقليم، برغم أن القيادات على الجانبين لديها تقديرٌ كبير لبعضها البعض، وبرغم المعركة المشتركة التي خاضوها ضد عصابات داعش… إن بقاء العراق الموحد الفيدرالي، متعدد الأعراق والمكونات، هو مصلحةٌ للعراق، بعربه وكرده، وللأُمة العربية كلها.. وأوجه ندائي للإخوة الأكراد بإعطاء الفرصة للحوار، حفاظاً على الدستور الذي شاركوا في صياغته، وصوناً للنظام الذي يحفظ للعراق وحدته.

السيد الرئيس

السادة الوزراء..

إن أزمات المشرق متداخلة، بعض حلقاتها يؤثر في بعض.. الأزمة السورية ما زالت تُمثل جرحاً غائراً في قلب الأمة، وهماً مُقيماً يكابده كل عربي يحزنه أن يرى أمة عريقة تتفكك ويتمزق نسيجها الاجتماعي على النحو الذي نشهده.. فيتشرد نحو نصف أبنائها بين المنافي ومحال اللجوء والنزوح، وتُعيدها الحرب أعواماً بل وعقوداً إلى الوراء.

إن البعد الإنساني، على أهميته وأولويته، يظل واحداً من الأوجه المختلفة للأزمة السورية، التي هي – في جوهرها- أزمة سياسية.. وبالتالي فإن حلها الدائم لن يكون إلا من خلال السياسة، وهو حلٌ يستلزم تنازلات متبادلة من مختلف الأطراف، كما يستوجب اعترافاً من الجميع بأنه لا رابح من وراء استمرار هذه الحرب .. الكل مهزوم والكل خاسر.. ومن يظن أنه انتصر يخطئ في قراءة الواقع السوري وما حلّ به من تشريد وضحايا وتدمير وتخريب وتمزيق.

إن المرحلة الحالية من الأزمة السورية تتطلب من النظام العربي تقييم الموقف بصورة دقيقة ومسئولة وواقعية .. منطلقنا هو مصلحة الشعب السوري أولا وأخيراً .. وأضع أمام مجلسكم الموقر أربع نقاطٍ، أظنُ أنها يُمكن أن تُشكل منطلقات لتفكيرنا بشأن الأزمة السورية في المرحلة المقبلة:

أولاً: تأييد أي ترتيب أو اتفاق يكون من شأنه حقن الدماء وحفظ الأنفُس، وخفض التصعيد العسكري، وحماية المدنيين، وإدخال المُساعدات الإنسانية إلى المناطق المُحاصرة … وبرغم أن الوضع في مناطق خفض التصعيد ليس مثالياً، إلا أن الظروف تُعد أفضل بالنسبة للسكان المدنيين .. والمأمول أن يستمر تثبيت الأوضاع في هذه المناطق، وبما يسمح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى السكان عبر نظام مستمر ومتواصل، خاصة إلى هؤلاء الذين عانوا من ويلات الحصار والضربات الجوية لفترات طويلة.

ثانياً: أجدُ لزاماً عليّ، ومن واقع مسئوليتي كأمينٍ عام للجامعة العربية، التأكيد على أن هذه الترتيبات هي في غايتها وأهدافها تظلُ ترتيبات مؤقتة، ولا ينبغي أن تُمثل – بأي حالٍ- تمهيداً لاستدامة أوضاعٍ تنطوي على تقسيم فعلي للوطن السوري .. فنحنُ لا يجب أن نقبل إلا بسوريا الموحدة، بحدودها التي عرفناها طوال القرن الماضي.

ثالثاً: إن الترتيبات المؤقتة، على أهميتها الشديدة في وقف نزيف الدم، لا ينبغي أن تكون بديلاً عن المسار السياسي لتسوية الأزمة السورية بصورة شاملة، ووفقاً لمُقررات جنيف1، وعلى أساس قرار مجلس الأمن 2254.

رابعاً: إن سوريا المُستقبل ينبغي أن تكون صاحبة سيادة حقيقية على أراضيها.. لا مكان فيها للميلشيات الأجنبية أو للمقاتلين الأجانب، ولا وجود على أرضها للجماعات الإرهابية. وهذه نقطةٌ فاصلة في المشهد السوري .. إن أي استقرار على المدى الطويل في سوريا يستلزم خروج كافة الميلشيات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من أراضيها، تماماً كما يتطلب القضاء على الجماعات الإرهابية.

السيد الرئيس،

السادة الوزراء،

ما زلتُ أتحدث عن نقاط ضوء متناثرة في ظل واقع عربي صعب.. وأرصد الاستجابة السريعة لمجلسكم هذا، ومن جانب القيادات العربية جميعاً، لما قامت به إسرائيل من إجراءات استفزازية وباطلة في الحرم القدسي الشريف في منتصف شهر يوليو الماضي .. أقول إنني أرصد رد الفعل السريع والمتضافر من جانب مجلسكم هذا، فضلاً عن التدخل الناجز لعدد من القادة العرب باعتباره نقطة ضوء تستحق الإشارة إليها، والإشادة بها.. إن إسرائيل ترمي إلى تغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم في المسجد الأقصى المبارك، وهي تسعى لتقسيمه زمانياً ومكانياً، توطئة لفرض القانون الإسرائيلي عليه، وتكثيف ما تقوم به بالفعل من حفريات خطيرة أسفل المسجد وتحت أسواره.. وهي فوق ذلك كله، تباشر خطتها الاستيطانية في مدينة القدس عبر هدم البيوت وطرد السكان للحفاظ على أغلبية يهودية في المدينة.. إن هذه المخططات الإسرائيلية، المعروفة والمكشوفة للكافة، تهدف إلى القضاء فعلياً على أية إمكانية لتطبيق حل الدولتين في المستقبل .. وهناك حالة من الإحباط واليأس –لا تخطئها عين- تسيطر على الشارع الفلسطيني، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة .. وللأسف فإن الإرادة الدولية مازالت واهنة في مواجهة دولة الاحتلال.. ومن الواضح لنا اليوم أن هدف نتنياهو منذ تولى السلطة في إسرائيل هو إحباط أية محاولة جادة للتوصل إلى تسوية على أساس حل الدولتين، وأنه صار مقتنعاً للأسف بغياب إرادة دولية حقيقية لكشفِ مناوراته ومماطلته وتفننه في إضاعة الوقت .. وأقول بعبارة واضحة أن على إدارة الرئيس ترامب أن تُدرك أن العقبة الرئيسية أمام أي جهد حقيقي تنوي القيام به من أجل إحياء عملية التسوية السلمية تتمثل في المفاهيم التي يتحدث بها رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي.

ومن عجبٍ أن تسعى إسرائيل، وهذه هي مواقفها وتلك هي سياستها، إلى العضوية غير الدائمة بمجلس الأمن.. وهي الدولة الأكثر انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن وللشرعية الدولية بوجه عام.. بل هي دأبت على التشكيك في نزاهة المنظمة الدولية وحيادها.. والأعجبُ أن تجدَ إسرائيل من يؤازرها في مسعاها هذا.

إن إسرائيل مازالت تشعر بأن في إمكانها إستدامة احتلالها للأراضي العربية، وتطبيع علاقاتها مع العالم في نفس الوقت.. وهذه المعادلة للأسف سوف تقود في النهاية إلى تقويض حل الدولتين، وإلى انفجار الأوضاع في الأراضي المحتلة، ومن ثمَّ في المنطقة بأسرها.

السيد الرئيس

إن الأوضاع في اليمن تكشف عن تمترس القوى الانقلابية خلف مواقفها النابعة من مصالح ذاتية وتوجهات أنانية .. وقد صار واضحاً اليوم من هو الطرف المسئول عن تعطيل أي حل سياسي محتمل .. لقد رفض الحوثيون كافة المبادرات المتوازنة التي تقدم بها المبعوث الأممي اسماعيل ولد الشيخ .. وكانت هذه المبادرات ترمي كما نعلم جميعاً إلى تجنيب البلاد الانزلاق إلى المزيد من الخراب، وكذا إلى احتواء الآثار المروعة للحرب على السكان المدنيين، وعلى الوضع الإنساني الذي يُثير انزعاجنا جميعاً .. لقد حان الوقت لكي تُدرك الجماعات الانقلابية التي تتشبث بالسلطة أنها تُلحق الدمار ببلدها، وتُهدد حياة الملايين من اليمنيين الأبرياء.

وفيما يتعلق بليبيا، فإن الجامعة تتابع الوضع بدقة عبر مبعوثي الشخصي ومن خلال عضويتها في المجموعة الرباعية المعنية بليبيا ..إن الأوضاع هناك ما زالت بعيدة عن الاستقرار الذي ننشده جميعاً .. إلا أن محاولات صادقة تُبذل من أجل لم الشمل والوصول إلى كلمة سواء بين الفرقاء .. وما أرصده اليوم هو أن هناك تقارباً أكثر، مقارنة بما مضى،  بين المواقف الدولية والعربية إزاء الأزمة الليبية وسبيل الخروج منها.

السيد الرئيس

السادة الوزراء..

ثمة نقاشٌ جارٍ ومستمر حول تطوير وإصلاح الجامعة وتفعيل دور الأمانة العامة للجامعة.. وإني أؤيد بشكل كامل كافة الجهود المخلصة والأفكار البناءة التي يمكن أن يترتب عليها إصلاح وتطوير عمل المنظومة العربية .. كل ما أرجوه أن يجري هذا النقاشُ على أساس موضوعي، وألا نسمح أبداً بوجود فجوة في الثقة بين الأمانة العامة والدول الأعضاء .. فليست الأمانة سوى معبر عن إرادة هذه الدول، وهي المفوضة من قبلها بإدارة دفة العمل العربي المشترك.. وغني عن البيان أن هذا التفويض ينطوي على منح الأمانة مساحة من الحركة والعمل، أعرف حدودها جيداً ولا أتخطاها، وإن كان يزعجني أن يسعى البعض للإفتئات على هذه المساحة.

إن الإرادة للإصلاح موجودة  لا شك فيها .. وهناك ما تمّ إنجازه بالفعل.. وثمة أمورٌ أخرى لا يُمكن إحراز تقدم بشأنها إلا بدفع الدول وإرادتها .. إن هذه المنظمة تستحق أن نناضل من أجل بقائها، واستمرارها في أدائها لمهامها .. هذه المنظمة تعمل بميزانية الحد الأدنى مقارنة بمثيلاتها في أنحاء الدنيا، ومع ذلك فهي بالكاد تؤمن ميزانيتها السنوية بسبب التباطؤ في سداد الحصص، أو التخلف عن هذا السداد لعدة سنوات في بعض الحالات.. مرة أخرى، أمد يدي بكل الود إلى حضراتكم وإلى مندوبيكم الدائمين للعمل سوياً وبكل الإخلاص من أجل رفعة شأن هذه المؤسسة العريقة التي نشرف جميعاً بالانتماء إليها.

السيد الرئيس

لا يسعني في الختام، سوى أن أقول إن النظام العربي الذي تجسده هذه الجامعة يتأسس على قيم وقواعد أراها راسخة مستقرة .. وأول هذه القيم عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، وعلى رأس تلك القواعد احترام السيادة .. هذه القواعد وتلك القيم هي عماد ذلك النظام وجوهر الرابطة بين دوله الأعضاء .. ولا شك أن المنظومة العربية كلها تزدهر ويشتد عودها عندما تحترم قيم وقواعد النظام العربي .. فالاستهانة بهذا النسق المستقر من القواعد والقيم يؤذي أمننا الجماعي، ويضعف لحمتنا وصورتنا أمام العالم.. هذه المنظومة الجامعة هي أعزُ ما نملك .. وهي ملجؤنا في وقت الشدة، وسندنا في زمن الرخاء، والأرض التي نقف عليها بثباتٍ فلا تميد من تحتنا.. فلنحافظ عليها، ونرعاها، وندافع عن قيمها الحاكمة وقواعدها الراسخة ذلك أن احترام القيم هو الضامن الوحيد لبقاء المنظومة واستمرارها بإذن الله.

شكـــــراً سيادة الرئيس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى