رأى

عقدة إيران فى السياسة الإقليمية للملك سلمان

استمع

حسن أحمديانhassan-ahmedyan

باحث أول بمركز الدراسات الاستراتيجية

بعد ضرب الربيع العربى لبعض حلفاء المملکة السعودية وعبور دول مجلس التعاون الموجة الأولی من الانتفاضات العربية بسلام، بدأت الرياض تحرکاتها الإقليمية لمرحلة ما بعد الثورات بحلة لم يعهدها المتابع للسياسات السعودية فى الکثير من جوانبها. وکان محور هذه التحرکات، الحد من تدهور ميزان القوی الإقليمى لصالح اللاعبين الإقليميين الجدد کالإخوان المسلمين والمنافسين القدامی کإيران. وکانت أدوات اللعب السعودى أمام إيران جديدة للغاية. فلأول مرة استعانت السعودية بخطابٍ طائفى لمحاصرة إيران وضرب حلفائها. وأصبح التأکيد علی طائفية سياسات إيران الإقليمية أداة لتخوين حلفائها العرب. کما جری الترکيز علی علاقات إيران بشيعة المنطقة وتقلص الحديث عن دعم إيران لحماس ودأبها لبناء علاقات متينة مع الإخوان المسلمين ودعمها لأکراد العراق أمام تقدم داعش لتناقضها مع الخطاب المؤکد علی طائفية سياسات إيران. وبذلك غلفت السعودية أهدافها الاستراتيجية بخطاب بدأ يأتى بتغييرات استراتيجية بعيدة المدی.
وقد ساعد اختلاف رؤی الإخوان وإيران حول سوريا إلی ولوج شىء من الخطاب الطائفى فى إعلام الإخوان السياسى ما أدی لتباعد إيرانى – إخوانى. وکان ذلك يصب فى مصلحة السعودية الباحثة عن تعميق الهوة بين إيران والإخوان. ولکن الخطاب الطائفى أتی بنتائج جانبية بدأت تطفو علی سطح التطورات الإقليمية. ويمکن اعتبار استفادة الحرکات المتطرفة المنخرطة فى الحرب الداخلية السورية من موجة المتطوعين للقتال والمثارة بالخطاب الطائفى أول النتائج الجانبية. وتصاعدت أعداد المتطوعين للقتال فى صفوف التنظيمات المتطرفة لأرقام غير مسبوقة لم تتراجع عن الألف حتی بعد بدء عمليات التحالف الدولى. کما ازداد قبول المجتمعات المسلمة لخطاب هذه التنظيمات المتطرفة وتزايدت علی إثره المساعدات المالية واللوجيستية المقدمة لها.
***
أدی صعود داعش واجتياحه لأراضى العراق إلی تذبذب فى سياسة الرياض الإقليمية. فقد أتت «طيفنة» الصراع علی السعودية بتهديدات جمة. ومع اقتراب أشهر الملك عبدالله الأخيرة ازداد الغموض فى الرياض. فلم يؤد ظهور داعش إلی انحسار الخطاب الطائفى للسعودية علی الرغم من إضعافه لمحور سعود الفيصل – بندر بن سلطان بعد إبعاد الأخير عن ملف سوريا. کما تضاءل تأکيد الرياض علی طائفية حکومة بغداد بعد اختيار حيدر العبادى لرئاسة الوزراء. ودخلت الرياض طرفا فى التحالف الدولى ضد داعش. بالرغم من هذه التطورات، يصعب القول بتغيير الاستراتيجية الإقليمية للسعودية کما يصعب الإتيان بنقطة فاصلة لمثل هذا التغيير. فقد استمر التجييش الإعلامى ضد إيران وحلفائها فى سوريا ولبنان واليمن. لهذا يمکن القول بازدياد الغموض فى الأشهر الأخيرة لحکم الملك عبدالله کسمة رئيسية لسياسة المملکة الإقليمية.
وکان الغموض هذا يزعج الکثيرين فى الداخل السعودى. فقد کان ولى العهد وحاشيته، المتخصصين فى الشئون الأمنية والعسکرية، يبحثون عن فرص لإعادة رسم وتأطير السياسة الإقليمية للسعودية وفقا لأولويات مختلفة والتخلص من الأعباء التى حدت من إمکانيات التحرك السعودى. وبمجىء الملك سلمان والتغييرات السريعة فى الداخل السعودى، بدأ إعادة ترتيب أولويات السياسة الإقليمية للمملکة يدخل حيز التنفيذ. وقد أظهرت سرعة التغييرات الداخلية (بإصدار الملك سلمان 34 مرسوما ملکيا فى الأسبوع الأول من حکمه) أن التغيير سيطال السياسة الخارجية. ولارتباط السياسة الداخلية بالخارجية، فقد رشحت أول التغييرات للسياسة الخارجية فى الداخل عبر إعادة شىء من الحرية للوجوه المعروفة بقربها من الإخوان کسعود الشريم وسلمان العودة.
ويُعد إتاحة الفرصة لزيارة راشد الغنوشى السعودية ودعوة خالد مشعل لزيارة المملکة، أول الغيث الذى بدأ هطوله بزيارة أردوغان للرياض. فقد کانت رياض الملك عبدالله وضعت إلی جانب إيران وحلفائها، حرکة الإخوان وأخواتها کأحد أهم التهديدات الأمنية للسعودية وحلفائها. وکان لهذا التوجه ما يبرره. فقد سعت حرکة الإخوان إلی بناء تحالف إقليمى لا يندرج ضمن التحالفات السابقة ويُضعف بالضرورة محور الاعتدال العربى. وکان قد أخرج مصر وتونس والمغرب من المحور المذکور وکان متوقعا أن يُخرج الأردن وغيرها منه. رغم ذلك، ظل الالتباس سائدا. فلم يکن بمقدور المتتبع للسياسة الخارجية السعودية أن يحدد بدقة أيا من إيران أو الإخوان کتهديد أولى فى الذهنية الاستراتيجية السعودية.
بصعود الملك سلمان بدأ التقارب السعودى إلی الإخوان وبدا واضحا أن الغموض فى تحديد الأولويات قد انتهی إلی حين. إذ أصبحت إيران تمثل الخطر الأول فى المخيلة السعودية وبذلك تجب مواجهتها بکافة الوسائل حتی لو اقتضی ذلك التقارب من تهديد داخلی وإقليمى کالإخوان فى المدی القصير. لا تنبع إعادة رسم الأولويات السعودية من المتغيرات الإقليمية فقط إذ للانعطافة الغربية تجاه إيران وخطابها الجديد الذى طرحه روحانى أثرا واضحا فى التطور الحادث فى الرياض. من هذا المنظور يمکن القول بأن المتغير الإيرانى يلعب دورا محوريا فى تحول السياسة الخارجية السعودية علی المستويين الإقليمى والدولى.
***
ويشير التقارب السعودى من ترکيا إلی إرجاء الخطر الإخوانى للتعاطى مع التهديد الذى تراه السعودية فى إيران. أما مصر السيسى فلا تجد بدا من الصمت أو التذمر خلف الستار من التوجه الجديد للرياض. فأولويات مصر اليوم لا تتماشی مع أولويات السعودية. فالإخوان من وجهة نظر السيسى هم التهديد الأهم وأن إيران وحلفاءها لا يأتون إلا بعد الخطر الإخوانى. إلا أن مصر السيسى لا تملك أدوات الضغط علی السعودية. فقد تماشت السعودية مع خيارات السيسى الداخلية والإقليمية لسنة ونصف. وأصبح اليوم علی مصر السيسى أن تماشى أولويات الرياض الإقليمية فى الداخل المصرى وخارجها. ويبقی الميل تجاه طهران خيارا مصريا يؤرق حکام الرياض ويدفعهم لطمأنة القاهرة باستمرار الدعم الاقتصادى والذى ظهر جليا فى مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصرى. إذ رغم انحدار مستوی تمثيل السعودية، صاحبة فکرة المؤتمر، أبدت الالتزامات التى قطعتها السعودية لدعم مصر خوفا من أى تحرك مصرى للتقارب مع طهران.
أما ترکيا فقد خسرت فى السنوات الأخيرة الکثير من نفوذها الشرق أوسطى. فقد وضعت ترکيا کل بيضها الشرق أوسطى فى سلة الرهان علی سقوط الأسد. کما وقفت إزاء إسقاط الرئيس مرسى موقفا أفقدها الکثير فى التعامل مع الدول العربية المجابهة لإيران وحلفائها. فلا هى استفادت من موقفها القريب من السعودية تجاه الأزمة السورية ولا استطاعت العبور من سقوط الرئيس مرسى للتعاطى مع السعودية فى ملفات کاليمن وقطاع غزة. من هذا المنظور يُعتبر الانفتاح السعودى عليها فرصة ستحاول أنقرة استثمارها فى سوريا. ويمکن توقع تغاضى ترکيا عن مواجهة نظام الرئيس السيسى لأهداف قد تعتبرها قريبة المنال. ولکن ترکيا المهزومة فى کافة الملفات الإقليمية تقريبا تدرك جيدا أن الوضع فى العراق وسوريا قد يتطور ليوجه أخطارا لوحدتها الأرضية. من هذا المنظور لا يُمکن لترکيا الولوج عميقا فى مواجهات الرياض الإقليمية. فقد بات منظر «تصفير المشاکل» مع الجوار رئيسا لوزراء أنقرة وقد جرَبَ تأطير المشاکل بدل تصفيرها فى السنوات الأخيرة وشهد ما خسرته ترکيا نتيجة لهذه السياسة. لذلك من المستبعد أن تناصر ترکيا السعودية إلا فى سوريا.
***
ومن الواضح أن تمحور السياسة السعودية حول إيران سيقود عقلية رياض الشرق أوسطية إلی حين. وما حرب «عاصفة الحزم» علی اليمن إلا البداية. وتبحث حکومة إيران الواقعة فى محور السياسة السعودية عن طرق لتبديد المخاوف السعودية والعربية حول اتفاقها المحتمل مع مجموعة 1+5 وقد أکدت فى هذا السياق علی لسان قيادتها أنها لا تريد ربط أى اتفاق مع الدول الغربية بالملفات الإقليمية. إلا أن هذه الأطروحات لا تطمئن السعوديين. فالرياض التى اختارت محاصرة إيران وحلفائها بخطاب طائفى تجدُ اليوم فى إشراك الإخوان فى معسکرها الإقليمى ضالتها لتقزيم دور إيران الإقليمى.
 
محور المشکلة فى تحالفات السعودية الجديدة يکمن فى نظرة الطرفين (الإخوان والسعودية) لبعضهم من منظور مقولة «الغاية تبرر الوسيلة». ومن شأن أى تغيير جدى فى الأزمة السورية أو فى علاقة إيران بالدول الغربية أن يعمق الفجوة السياسية بين الطرفين ويُقحمهما مجددا فى صراع أيديولوجی.
ومن الواضح أيضا أن المعسکر السعودى أمام إيران لا يُمکن أن يتزعمه غير الرياض. فلا يمکن للسعودية التى تواجه قوة إيران الإقليمية القبول بقوة إقليمية أخری تشاطرها النفوذ بين الدول العربية. فلا يُمکن للسعودية کبح جماح التطلعات الترکية للعب دور إقليمى أکبر أو إبعاد القاهرة المتعطشة للعب دور إقليمى فى المديين المتوسط والبعيد.
 
کما أن أولويات دول عربية کقطر والإمارات مبنية علی مشاريع إقليمية تتلاقی حينا مع سياسات الرياض وتتقاطع معها أحيان أخری. تعلم السعودية أن الحائط الذى تحاول بناءه حول إيران فى الشرق الأوسط ليس إلا شبكا ممزقا لا يصلح لما ترنو له. من هذا المنظور تبدو مهمة الملك سلمان أمام إيران شبه مستحيلة. ولکن الواضح أن أجواء الرياض المشحونة بالعداء لطهران والخوف منها تحجب عن استراتيجيى السعودية النتائج المحتملة للتشبث بالخطاب الهوياتى. وتُبدى تجربة الخيارات الاستراتيجية السعودية فى أفغانستان فالعراق فسوريا والتهديدات الناتجة عنها کالقاعدة فالدولة الإسلامية فى العراق فداعش وجبهة النصرة وأخواتها قصر نظر استراتيجى. هکذا يقلب الخيار الاستراتيجى الخاطئ الأهداف المرسومة لسياسة ما إلی نتائج عکسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى