رأى

الكوفيد 19.. أي أثر على الصحة النفسية والاجتماعية؟

استمع

د. حذامي محجوب

لقد أكد ابن خلدون من قبل في كتاب العبر والمبتدأ والخبر على أن الحافز الأساسي لكتابة التاريخ هو خشيته من ضياع أخبار الأجيال التي انقرضت مع الطاعون ، فانكب على حفظ الذاكرة للأجيال القادمة ، لوعدنا الى التاريخ لوجدنا أن الطاعون الأسود قد ضرب القارة الأوربية وشمال افريقيا في سنتي 1348 و1352 وقضى على ثلثي سكان أروبا وكل ثروتها من المواشي …مما أجبر سكان الأرياف والمزارعين على النزوح الى المدن التي انشأوها خاصة في إيطاليا وهولندا ،فازدهرت الصناعات التقليدية والتجارية …وتغير نمط حياة الأوربيين ولعل ذلك هو الذي أدى الى ظهور عصر النهضة في أروبا.
وحين ظهرت الأنفلونزا الاسبانية سنة 1918 في أمريكا وأروبا وآسيا وقتلت ما يقارب 100 مليون نسمة أي أضعاف ما أتت عليه الحرب العالمية الأولى أدى ذلك بدوره الى تغييرات جغرافية وسياسية واجتماعية كبيرة .يعني أن هنالك دائما تغيرات تطرآ على المجتمعات على اثر الأوبئة ، ويبدو جليا أنها ستحدث تغيرات كبيرة بعد الكورونا فيروس ، هذا ما يؤكده لنا تقريبا كل مفكري العالم في الشرق والغرب كل يوم على القنوات التلفزية وفي كتاباتهم من أمثال الإيطالي جورجيو اقامبن والمجري بيتر سلوتردايك والأمريكي نعوم تشومسكي وجاك اتالي في فرنسا وغيرهم كثير …
ان الأزمة التي يواجهها العالم والتي خلقتها هذه الجائحة (الكوفيد19 )،اليوم هي ازمة عميقة لم يواجهها العالم من قبل، لأنها شكلت أزمة على مستوى جميع الدول وحتى على مستوى جميع الأفراد دون استثناء ،لذلك فان العالم لن يكون هو نفسه بعدها باعتبار أن هذا الوباء المفاجئ لا يضع تحديات هائلة أمام أمن الصحة العامة العالمية بل هو كذلك يفتح أعيننا اليوم على المخاطر المحدقة بصحتنا وبالمحيط الملوث الذي نعيش فيه منذ مدة ، كلنا يتذكر الفتاة السويدية غريتا ثامبرغ التي قامت برحلة بحرية في الصائفة الماضية من اروبا الى أمريكا لتنبه قادة العالم بالخطر الذي يهدد الكرة الأرضية والأجيال القادمة ولكن الكثيرون سخروا منها واعتبروا ان عملها كان استعراضيا لا غير.
ان ازمة الكوفيد 19 تلقي بظلالها على نمط حياة الانسان، على حرية تنقله وعيشه من السياسي الى رجل الشارع لأنه لا يمكننا ان نعاند هذا الفيروس الخطير، ونستمر في العيش كما كنا من قبل، ما ألفناه وتعودنا عليه وصار من تقاليد حياتنا اليومية وجدنا أنفسنا امام ضرورة تغييره، فالوباء جعل كل الناس في العالم يغيرون أساليب حياتهم، لم نعد نصافح بعضنا البعض، لم نعد نزور اقاربنا وخاصة آباءنا وأمهاتنا واجدادنا وكبار السن عموما خوفا عليهم باعتبار ان هذه الجائحة تفتك خاصة بالمسنين.
وقد أخبرنا الأطباء والمختصون في علم الجراثيم، حتى أن الكل صار يعرف بأن هذا الفيروس ينتقل عن طريق الجسم الحي، سواء عن بالمصافحة او بالتقبيل او بأي شكل من أشكال التقارب وكذلك عندما نلمس مادة جامدة اذ يمكن ان يعيش فترة على بعض المواد والسطوح وخاصة مادة البلاستيك وكذلك على النقود…وهذا يعني أن هنالك إساءة غير مرئية تنتقل من جسم الى جسم آخر فتجعلنا نضر غيرنا وننقل اليه العدوى.
نكتشف اننا يمكن بسهولة ان نلحق الضرر بغيرنا حتى وان كان أقرب الناس الينا وهذا يعني ان الانسان يكتشف بأنه مسؤول عن تحركاته وكل افعاله بصفة مطلقة في حين كان أولى به ان يشعر بهذه المسؤولية تجاه الآخرين من قبل حتى بالنسبة للجيل الذي لم يولد بعد. ان هذا الفيروس بما يشكله من خطر فناء مشترك سيجبر الانسان على مراجعة كل مفاهيمه حول البيئة والصحة والحياة المشتركة في المجتمع. يذكرنا هذا الوباء بان العالم يتحدد بطبيعة الهواء الذي نتنفسه والغذاء الذي نتناوله والأشخاص الذين نختلط بهم. ويذكرنا خاصة أن الصحة هي أساس الحياة وانه لا يستقيم أي شيء في حياتنا مع فقدان الصحة.
ان هذه الجائحة وبما فرضته على المجتمع من حظر صحي في كل مكان من العالم قد خلقت ازمة في الحضارة لم نعشها من قبل لأنها أجبرتنا على التأقلم واستعمال الأنترنت بكثافة ودون هوادة، كل واحد أصبح يعيش ساعات كثيرة في اليوم عن طريق النت، فالحظر الصحي قد قلب حياتنا رأسا على عقب، اذ حصل تباعد اجتماعي كما ذكرنا ولكن تقارب افتراضي كبير بين الناس وفرته وسائل التواصل الاجتماعي.
من آثار الفيروس كذلك أن كل الناس اتجهوا الى الاستماع الى آراء وتحاليل ونصائح الأطباء بدئا بالسياسيين الى رجل الشارع .وأصبح الحديث يدور في كل الأوساط عن الدكتور راوول في فرنسا وعن الكرو لوكين والأبحاث الجارية في السعودية والامارات وتونس وايران وامريكا وألمانيا وفرنسا وكوريا ….أي سقطت كل الاعتبارات السياسية والاقتصادية والطبقية والمذهبية واصبح لكل سكان العالم نفس الشاغل ، وهذا يعني انه حين تكون حياة البشر في الميزان فان الكل يتابع الأبحاث العلمية وينتظر نتائجها .بل اكثر من ذلك فان امتثال البشرفي كل انحاء العالم الى الحجر الصحي يدل على أن كل الناس قد فهموا ان لا خلاص لهم دون علم باعتبار ان العلم يقوم على مبدا الوقاية ، والوقاية تتطلب الفعل ، والفعل يتطلب الانضباط .
كما أن هذا الوباء قد دفع معظم البلدان الى إيلاء اهتمام أكبر بشؤونها الداخلية منه بالشؤون الخارجية وهذا في رأيي سيستمر لسنوات. وفي هذا الإطار يمكن ان أتحدث عن التجربة التونسية وما وقع من تحولات وما احدثته هذه الجائحة من تغيرات في المجتمع، في غضون هذا الأسبوع اهتمت العديد من الصحف ولاسيما الواشنطن بوست والنيويورك تايمز بشخصية طبية تونسية وهي الدكتورة نصاف بن علية، المديرة العامة للمرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدة بوزارة الصحة والتي قادت معركة التصدي للكوفيد 19 بخطة محكمة، وقد أشادت هذه الصحف بحكمة هذه الطبيبة وبخطتها الناجعة في مقاومة هذا الوباء.
وكأن الكورونا فيروس قد جاء ليثبت لمن مازال يعتقد بان المرأة لا تفلح في قيادة المعارك وفي تولي المسؤوليات الكبرى بأن المرأة قادرة على فعل المعجزات حين تتاح لها الفرصة. وكذلك راينا كيف أن أميرة السويد، الأميرة صوفيا زوجة الأمير كارل فيليب قد نزعت التاج الملكي ولبست الثوب الطبي والتحقت بالمستشفى في ستوكهولم في أوج الأزمة الصحية التي خلقها الكورونا فيروس .
كل البلدان تقريبا خلال هاته الجائحة وجدت نفسها أمام مصيرها وحاولت ان تجد حلولا داخلية، فلا أحد يستطيع ان يعول على اعانات خارجية باعتبار ان هذا الفيروس قد جعل اغنى الدول واكبرها تتخبط وتسعى جاهدة لإنقاذ مواطنيها.
ويمكن هنا ان اشير الى التجربة التونسية فقد دفع فيروس الكورونا كل الطاقات الى الانكباب على البحث وأنتج تقدما ملحوظا في دعم خدمات الصحة العامة، فقد تمكن طلبة
مدرسة الهندسة بمدينة سوسة من تصميم آلة علاج بالأكسجين في فترة حرجة من انتشار الفيروس كان الكل يخشى فيها عدم قدرة وحدات الإنعاش الصحية في البلاد على استيعاب عدد المصابين، كما كانت تونس من أوائل البلدان في المنطقة التي قامت بفك تشفير جينوم الفيروس المنتشر محليا، وهي تعد خطوة أولى ضرورية لتطوير اللقاح.
فضلا عن عدة اختراعات أخرى مرتبطة بالذكاء الاصطناعي وفي علاقة بالجائحة فيما يخص مراقبة الحظر الصحي واجراء الفحوصات والاختبارات الخ…
تغيرات كبيرة تحصل في مجتمعاتنا كل يوم على إثر هذه الجائحة لعلها ستجعلنا نعيد ترتيب حياتنا واولوياتنا، كذلك يمكن لهذا الحظر ان يكون فرصة للتحرر من ثقافة الاستهلاك المفرط التي رغم معرفتنا بمضارها لم نكن قادرين على التحرر منها، اذ نلاحظ ان اغلاق المطاعم والمقاهي والتزام الناس ببيوتهم قد أرجعهم الى عادات قديمة كتناول الطعام الصحي في بيوتهم وحرصهم على النظافة والتعقيم بأنفسهم وهي عادات وقائية ستقضي على العديد من الجراثيم وتقبنا العديد من الامراض في المستقبل. وهذا يعني أنه حين تكون الأرواح البشرية في الميزان تتحرك كل الهمم.
اننا نلمس كذلك العديد من النتائج الإيجابية فيما يخص الحياة الاجتماعية في العديد من المناطق من العالم خاصة في المناطق التي تعطى فيها الأولوية للحياة المهنية والنجاح الاقتصادي على حساب الحياة الخاصة ولاسيما العائلة. نلاحظ ان العديد من العائلات بحكم الحجر الصحي المفروض قد تلاقت وعاشت بفضل هذه التجربة تقاربا بعد اغلاق المدارس وبعد أن أصبحت الشوارع فارغة، خالية من السيارات ومن البشر.
نأمل أن يحصل نوع من التصالح بين الانسان والطبيعة التي يعيش فيها وان يكون الانسان أكثر رحمة ومحبة وتضامن مع غيره من البشر وبذلك يفوز بصحة نفسية وسلم اجتماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى