رأى

زمن المسخ..!

استمع

بقلم: محمد محسوب السنباطي

زمن المسخ جملة شهيرة قيلت في أحد الأفلام ولعلني أقصد بها الإشارة إلى الآثار السلبية والتداعيات الخطيرة التي تتركها العولمة بتيارها الجارف والمتعجرف، في اندثار الثقافات المختلفة للشعوب، خاصة وأن كل ثقافة من ثقافات تلك الشعوب، تمثل بذاتها منظومة من الميراث الفكري والمعتقد الإنساني، الذي يمثل إبداعا فكريا مهما كان ذلك الناتج متواضعا بمؤشرات الحضارة الغربية الراهنة.

وهنا يظهر السؤال ما هي المظاهر التي تجبر الفكر البشري للسير في اتجاه مغاير لموروثاته ومعتقداته؟ سؤال أصبح من الضروري أن نجد إجابة عليه فلقد واجهت الموروثات والمعتقدات الفكرية على مر التاريخ محاولات للانقلاب عليها وتغييرها والعمل على تحويلها إلى اتجاه مغاير، ولعلني أري أن كثير من تلك المحاولات أدت إلي تغيير مجرى التاريخ أكثر من مرة وبصور مختلفة، ولعلني أيضا أري أن أبرز تلك المحاولات كانت تدور حول تغيير المؤثر الأكبر والأبرز في الحالة الإنسانية كاملة وهو (الدين)، حتى وإن رفضنا الاعتراف بذلك في عصر العولمة والماديات التي تطغى.

قد تكون بعض محاولات الانقلاب على الموروث محمودة حينما يتعلق الأمر بأفكار ومعتقدات بشرية عفى عليها الزمن ولم تعد صالحة للزمن الحاضر، ولهذا قد تكون محاولة الانقلاب والتجديد هنا ضرورة لا مفر منها لتنتج صيغة فكرية جديدة تتناسب مع أحجام العقول والرؤى الإنسانية التي تتوسع بشكل مستمر وفقاً لاعتبارات اجتماعية وسياسية، وهنا علينا أن نقف أمام السؤال ذاته ما هي المظاهر التي تجبر الفكر البشري السير في تجاه مغاير لموروثاته ومعتقداته؟

أري أن هناك محاولات لخلق مجموعة من الانقلابات الفكرية الوهمية، محاولات لإنتاج مولود مسخ يمثل انقلاباً فكرياً وهمياً لتتبناه الشعوب وتنسى الأساس الذي أخذ منها غصباً، فكان المولود المسخ يتمثل في أشخاص أحياناً، ويتمثل في أعمال فنية أحياناً، ويتمثل في جماعات أحياناً أخرى، يمكننا القول أن مرحلة ولادة ذلك المسخ مرت بثلاث مراحل هي (الاقتصاص – التهميش – العنف).

الاقتصاص: هي تلك المرحلة التي اعتمدت على اقتصاص أجزاء من الدين، أو أخذ بعض منه وترك بعضه الآخر. كأن يتم الاكتفاء بما ورد في القرآن الكريم وترك الأحاديث الصحيحة باعتبار أنه الكتاب الوحيد الذي لم يعتره الخطأ أو التحريف والنقص، وبالرغم من تفاهة تلك المحاولة إلا أنها لاقت أصداء كبيرة بشكل خاص عند أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن دينهم.

التهميش: وهي تلك المرحلة المبنية على تهميش الجانب الإلزامي من الدين الذي لا يوافق هوانا ودروشة الطقوس بما يمسي “استفت قلبك” هي مرحلة تدعو إلى ترك الدين ككل، والإبقاء على رموز وشكليات لا أكثر، فهي دين آخر ينتمي إلى الإسلام، ويصعب حتى أن نسميه مذهباً ولأن ورقتها قد تكون رابحة، فلا يزال اللعب بها مستمرا.

العنف: وهي تلك المرحلة التي خلقتها الفرق المتأسلمة، ولك أن تعدد وتحصي الجماعات الإسلامية التي تم خلقها وشيطنتها وإلباسها عباءة الإسلام في الـ 100 عام الأخيرة، ولك أن تتخيل ما تسببت فيه تلك المحاولات من تشويه صورة الإسلام في وعي الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء.

إن من مخاطر العولمة على ثقافات الشعوب، هو التأثير على الهوية والموروث الثقافي للشعوب والمجتمعات، وذلك من منطلق أن العولمة تزعم أن كل البشر يجب أن يكونوا مجتمعًا عالميا واحدا، قائما على معتقدات وثقافة واحدة، لتتطابق سلوكياتها وأنماط معيشتها مع تلك المعايير، سواء تم ذلك بالقوة، أو بالكنس المعولم، المدعوم بوسائل الغزو العلمي، والتكنولوجي، والمعلوماتي ولعل في مقدمة الأخطار المحدقة بالهويات الوطنية -إضافة إلى ما تقدم من تحديات: هناك خطر الاختفاء التدريجي للغة المستخدمة فأي مجتمع مستهدف بالعولمة، يبدأ بخسارة لغته، التي هي أداة التواصل بين أبناء الأمة، والطريق الذي يربط مجتمعها بأصوله.

 وبهذا يصبح من السهل احتواء ذلك المجتمع، ومن ثم تخليه عن ثقافته، من خلال انزلاقه في تقبل القيم الثقافية الدخيلة التي تفرض عليه، واستمرائها بمرور الوقت، بغض النظر عن آليات ووسائل الفرض والإجبار، حتى تتمكن رياح العولمة -بالمحصلة- من إلقائه في متاهات الضياع، وما يترتب على هذا الوضع المتأزم من فقدان للهوِية، وضياع للكيان، وتفريط في مقومات الوجود. ولأن الموروث الثقافي هو ذاكرة الأمة التي إن محيت فإن الأمة ستصبح كيانًا خرفًا بلا ذاكرة، تتخبط ولا تعرف كيف تهتدي إلى سبيل الرشاد؛ لذلك فإن الانتباه إلى مخاطر مسخها بالعولمة الجارفة يصبح مسألة منافحة عن الوجود، تستوجب استنفار طاقات الموروث الحضاري للأمة، بكل أبعادها: الفكرية، والدينية، والاجتماعية، والمادية، وحشدها في مواجهة رياح العولمة، في جوانبها السلبية، التي تستهدف المس بمقومات الأصالة.

وعليه فإنه من أجل ضمان الارتقاء بحس التعايش الجمعي، والنمو الآمن؛ فإن علينا أن ندرك أن التغير لا يعني بالضرورة خسارة الهوية لأي مجتمع، بل والأهم من ذلك كله الحرص على البقاء المقرون بالأصالة، المتصلة بالعصر اتصالاً حيا وحركيا، يواكب إيقاعات التطور المعاصر بسلاسة، ولا يعرقل مسيرة: الإعمار، والبناء، والتقدم على الأرض.يجب أن تتخلى عن نهج التبعية، وتنتهج الطريق المستقل للتنمية والتطور، بحيث تحمل مردودات التطور، ومنتجات حركة النمو في مسيرتها المعاصرة، ملامح الخصوصية الوطنية كعلامة فارقة بشكل واضح؛ وذلك من خلال العمل على استيعاب معطيات العولمة، وهضمها، وتطويعها؛ لكي تصب في مصلحة الخصوصية الوطنية، وليس صهرها وطمس معالمها، بحيث يأتي هذا النهج في مقدمة الأوليات الوطنية للتنمية المستدامة، لا سيما وأن العولمة لم تعد محصورة في الاقتصاد والتكنولوجيا والمعلوماتية فقط، بل إن تأثيراتها بكل منعكساتها قد تخطت تلك المجالات، لتخترق مجالات التربية، والتعليم، والثقافة العامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى