رأىسلايدر

الماضى لنا والمستقبل لهم

استمع

فهمى هويدى فهمي هويدي

لا نملك سوى أن نحنى رءوسنا تقديرا واحتراما للثنائى الذى أعلن التبرع للأعمال الخيرية بـــــ ٩٩٪ من أسهمهما فى شركة «فيسبوك» التى قدرت بمبلغ ٤٥ بليون دولار.

أتحدث عن الأمريكى مارك زوكربرج (٣١) وزوجته بريسيلا تشان. اللذين وجها رسالة بهذا المعنى إلى طفلتهما الأولى التى أنجباها قبل أيام. وذكرا أنهما سينشئان مؤسسة لهذا الغرض، يتوليان إدارتها هدفها «تحسين الإمكانات البشرية وتعزيز المساواة». لا يغير من التقدير والاحترام كون الرجل ملحدا أو يهوديا كما قيل، لأن أكثر ما همنى هو تنامى ذلك النزوع النبيل إلى الخير الذى يدفع نفرا من كبار الأثرياء لأنْ يفكروا بغيرهم ويوجهوا مبالغ هائلة من ثرواتهم إلى أعمال البر، التى تنفع الناس.

قبل مارك زوكربرج وزوجته قرأنا عن عملاق البرمجيات (مايكروسوفت) بيل جيتس وزوجته ميليندا اللذين تنازلا عن ٩٥٪ من ثروتهما لأعمال الخير، ورجل المال وارين بافيت الذى تنازل عن ٩٩٪ من ثروته. ومؤسس شركة أوراكل للتكنولوجيا لارى إليسون الذى تنازل عن ٩٥ ٠/٠ من أملاكه. وكان زوكربرج وزوجته تشان من الموقعين على «تعهد العطاء» الذى أطلقه بيل جيتس وزوجته بهدف إقناع كبار الأثرياء بالتنازل عن أكثر من نصف ثرواتهم للخير. ودفع ذلك التعهد غير الملزم ١٣٨ من كبار الأثرياء فى ١٥ دولة. بينهم عربى واحد هو البليونير السودانى البريطانى مو (محمد) إبراهيم، الذى أعلن التبرع بنصف ثروته لأعمال الخير قبل عشرة أعوام. ومن الموقعين أيضا الباكستانى عارف نقفى الذى أسس شركة عقارية كبرى مقرها دبى.

ليس لدينا ما يثبت أن منهم من فعل ذلك للتهرب من الضرائب كما يقول البعض. لذلك فإننا نغبطهم ونحسدهم ونستحيى منهم. نغبطهم لأن مجتمعاتهم أفرزت أمثال هؤلاء الناس الذين قدموا نماذج نادرة فى العطاء والمسئولية إزاء محيطهم المحلى والإنسانى. ونحسدهم لأننا لم نسمع فى زماننا وفى بلادنا المكتظة بالأثرياء بأن أحدا منهم فعلها، فقدم ثروته كلها أو أغلبها أو نصفها لمساعدة المحتاجين أو خدمة المجتمع. أما شعورنا بالحياء والخجل فراجع إلى أمرين: الأول أن ثقافتنا اعتبرت العطاء من أركان الإيمان، فضلا عن أن لدينا خبرة تاريخية نعتز بها فى هذا المجال.

الأمر الثانى أن العالم الغربى نقل عنا هذه القيم فأنضجها وطورها وحولها إلى أحد مصادر قوة المجتمعات وعافيتها، فسبقونا وتفوقوا علينا وأبهرونا، وهذه مسألة تحتاج إلى بعض التفصيل.

فى الشق الأول لا نستطيع أن نتجاهل أن المرجعية الإسلامية ممثلة فى النصوص الشرعية تعتبر المال مال الله بالأساس، وأن للناس حقا فيه غير الزكاة، التى هى ركن من أركان الإيمان. وهذه الخلفية هى التى فتحت الباب واسعا لمختلف صور العطاء التى كان الوقف أبرزها والنموذج العبقرى لها. وأى دارس للتجربة الإسلامية يدرك أن الأوقاف كان لها دورها الأكبر فى بناء مجتمعات المسلمين، فالسلطة كانت معنية بالإدارة والخراج والفتوحات، أما ما نسميه فى زماننا بالإعمار المتمثل فى تقديم الخدمات وتوفير التعليم والرعاية الصحية وشق الطرق وغير ذلك، فقد نهضت به المجتمعات من خلال الأوقاف. وعبقرية الفكرة تمثلت فى أن الأوقاف صارت سبيلا إلى عمارة الدارين، فى الدنيا والآخرة، ذلك أن الواقف يسهم بعطائه فى بناء المجتمع والنهوض به، وفى الوقت ذاته فإنه يتقرب بذلك إلى الله ويثاب على فعله فى الآخرة. والدارسون لنظام الوقف يدهشهم تنافس المسلمين على خدمة مجتمعاتهم على مدى التاريخ. والمؤلفات التى عالجت هذه المسألة وفيرة. من أهمها مؤلف الدكتور إبراهيم البيومى غانم «الأوقاف والسياسة فى مصر»، الذى سلط الضوء ليس فقط على مساهمات الأثرياء القادرين فى عمارة المجتمع قبل تأميمه لصالح السلطة من خلال وقف آلاف الأفدنة والعقارات، وإنما أيضا مساهمات متوسطى الحال والبسطاء التى تمثلت فى أسبلة المياه والمظلات التى كانت تقام لحماية الناس من حرارة الشمس وغير ذلك.

فى الشق الثانى المتعلق باقتباس الغربيين للفكرة من التجربة الإسلامية فذلك موثق فى دراسات أكاديمية عدة. وللفيلسوف الفرنسى مارسيل موس (المتوفى سنة ١٩٥٠) كتاب منهم فى هذا الصدد ترجم إلى العربية بعنوان «بحث فى الهبة» ذكر فيه أن فلاسفة عصر الأنوار (القرنان ١٧ و١٨) قاموا بدورهم فى تأصيل قيم الحرية والعدالة، ولكن قيم العطاء فى الثقافة الغربية تم اقتباسها من ثقافة وخبرة المجتمعات الإسلامية. ومن الثابت أن مؤسس عائلة فورد (جد الرئيس الأسبق) كان قد زار مصر فى أوائل القرن التاسع عشر وتفقد الأزهر والمنشآت الوقفية فى مصر، وعندما عاد إلى الولايات المتحدة فإنه أسس «فورد فونديشن» على غرارها وأن أمريكيين آخرين درسوا نظام الوقف فى الدولة العثمانية ونقلوه إلى بلادهم حتى أصبحت أهم وأشهر الجامعات الأمريكية تدار كلها بواسطة الأوقاف. وثمة تفاصيل كثيرة فى هذا الصدد تضمنتها رسالة ماجستير حول العمل الخيرى فى الغرب، قدمت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية للباحثة ريهام خفاجة.

هذه الخلفية نخجل من ذكرها الآن لأن كل ذلك صار عندنا تاريخا نتغنى به ونتحسر عليه، أما بالنسبة إليهم فقد أصبح واقعا يغتنون به ويعتزون به. فاكتفينا نحن بالماضى وفازوا هم بالحاضر والمستقبل.

 * فهمى هويدى: كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى