رأى

كردستان الكبرى

استمع

أحمد يوسف أحمد414_7858748

نشرت صحيفة «الشروق» فى عددها بتاريخ ١٢ يونيو الحالى مقالاً بعنوان «السعودية ودولة كردستان الكبرى»، أعتقد أنه لم يأخذ حظه من الاهتمام الواجب. وفى هذا المقال حدثنا كاتبه -وهو مقيم بالولايات المتحدة- عن ندوة نظمها «مجلس العلاقات الخارجية»، أحد أهم المراكز البحثية بالعاصمة الأمريكية بعنوان «تحديات وفرص إقليمية: رؤى من المملكة السعودية وإسرائيل»، وكان المتحدثان الرئيسيان فيها هما اللواء المتقاعد أنور عشقى، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية بجدة، ودور جولد، المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية. ولفت الكاتب إلى أن الندوة كانت، عكس توقعه، مفتوحة وليست مغلقة، والأهم من هذا كله أنه نقل عن اللواء عشقى قوله بين علامتى تنصيص «يجب أن نعمل على إيجاد كردستان الكبرى بالطرق السلمية لأن من شأن ذلك أن يخفف من المطامع التركية والإيرانية، وستقتطع دولة كردستان الكبرى ثلث إيران وثلث تركيا وثلث العراق». ولا أنوى أن أناقش الموضوع من منظور التطبيع السعودى – الإسرائيلى الذى يدور الجدل حوله منذ مدة، ولا من زاوية أن ما قاله عشقى تعبير عن السياسة السعودية، ولكنى لا أستطيع أن أتجاهل أنه عضو بارز فى النخبة السعودية الاستراتيجية يعيش فى وطنه ويمارس فيه نشاطه الفكرى، وهو ضيف بارز فى الفضائيات السعودية والعربية، بما يعنى أن آراءه مسموح بها فى المجال الطبيعى لمناخ التنوع الفكرى الذى يحيط بهذه النخبة، ومن هذا المنظور تحديداً أريد أن أتناول أفكاره على أساس أنها تعبّر عن اتجاه موجود وإن كنت لا أعلم قوته النسبية داخلها. ولدىّ فى هذا الصدد أربع ملاحظات.

تتمثل الملاحظة الأولى فى أن هذه الأفكار تدخل فى سياق الحديث عن خريطة جديدة للشرق الأوسط، وهل هناك ما هو أكثر من هذا للحديث عن هكذا خريطة، إذ سوف يتم تقويض السلامة الإقليمية لكل من العراق وسوريا وتركيا وإيران لحساب دولة كردية لا يقل عدد سكانها عن ٣٠ مليوناً ولها مواردها الاقتصادية المهمة، والمكان المناسب لمناقشة هذه الأفكار ليس هو الساحة الأمريكية، خاصة أن الإدارات الأمريكية هى أساس الحديث عن الخرائط الجديدة فى المنطقة، كما أن إسرائيل بالتأكيد ليست شريكاً مناسباً على الإطلاق للحوار حول هذه الأفكار الخطيرة، وهى المستفيد الأول منها لأن وضعها موضع التنفيذ يضرب فى الصميم ثلاث قوى على الأقل طالما ناصبتها العداء.

والملاحظة الثانية أنه من التبسيط البالغ للأمور أن نتحدث عن «إيجاد كردستان الكبرى بالطرق السلمية» وفقاً لعشقى، فإحداث هكذا تغييرات دونه خرط القتاد، وسوف ينطوى على تفاعلات بالغة العنف تتقاتل أطرافها حول مصالح استراتيجية: الدفاع عن السلامة الإقليمية لأربع دول وتحقيق الحلم القومى للأمة الكردية، فكيف نتصور أن يجلس أكراد إيران مثلاً على طاولة التفاوض مع الحكومة الإيرانية لترتيب انفصالهم عن الدولة الإيرانية وانضمامهم للدولة الكردية المنشودة؟

أما الملاحظة الثالثة فتتحدث عن تداعيات هذه الفكرة على الأمن الإقليمى والعربى، فإذا سلمنا بأنه من المستحيل تنفيذها سلمياً يجب أن يكون واضحاً أن الإلحاح عليها يمكن أن يؤدى إلى تفجير الصراعات التى تحدثت عنها فى الملاحظة السابقة، وهذا من شأنه أن يصيب معادلات الأمن فى المنطقة بضرر بالغ، لكن الأهم من ذلك أن الأمن القومى العربى هو الذى سيدفع الثمن الأفدح لأن تركيا وإيران دولتان قويتان ومن الصعوبة بمكان تصور انتصار أى حركات انفصالية كردية فيهما فى الأمد المنظور بينما تُطرح هذه الفكرة فى وقت ضعف بيّن لكل من العراق وسوريا، وليس مستبعداً فى مناخ الاضطراب الهائل الذى يمر به البلدان، بل المنطقة بأسرها، أن تتجسد سيناريوهات التفكيك فيهما بل إنها مطروحة بالفعل، والأخطر أن وضع هذه الأفكار موضع التطبيق سوف يفضى إلى أفكار مماثلة بالنسبة لجماعات قومية وطائفية أخرى بحيث تدخل المنطقة فى حلقة مفرغة خبيثة.

وتنصرف الملاحظة الرابعة إلى التوقيت الذى طُرحت فيه هذه الأفكار، إذ يبدو غير ملائم على الإطلاق، وبالإضافة إلى ما سبق ذكره عن الضعف البيّن لسوريا والعراق يمكن الإشارة إلى أن نتائج الانتخابات التشريعية التركية الأخيرة قد فتحت الباب واسعاً للأمل فى أن يحقق الأكراد مطالبهم المشروعة بالأسلوب السياسى السلمى، فبدلاً من العبث الضار بالسلامة الإقليمية لأربع دول على نحو لا يضمن تحقيق هذه المطالب ها هم أكراد تركيا ينجحون فى الدخول إلى العملية السياسية من خلال آلية ديمقراطية أفضت إلى تمثيلهم فى السلطة التشريعية التركية بثمانين مقعداً، وهو إنجاز يمكّنهم من أن يلعبوا دوراً محتملاً فى حكومة ائتلافية مقبلة كما أنه مرشح للزيادة مستقبلاً، وفى كل الأحوال فإن هذا الثقل المعقول فى البرلمان سوف يساعدهم دون شك على المضىّ قدماً فى تحقيق مطالبهم المشروعة بدلاً من الغرق فى بحار الدم، وعندما ينجح هذا النموذج سوف يمكن الاقتداء به فى حالات أخرى.

لا تواجَه الأفكار إلا بالأفكار، وتتحمل النخبة العربية المثقفة عامة، والسعودية خاصة، مسئولية مواجهة هذه الأفكار التى تستخف بالسلامة الإقليمية لقوى إقليمية وعربية لها وزنها وبيان مخاطرها الجسيمة لا على الأمن القومى العربى فحسب وإنما على السلامة الإقليمية لكل الدول العربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى