رأى

السكتة الإلكترونية..والهوجة العالمية

استمع

د. حازم الرفاعي

تتطور الأحداث في الشرق الأوسط وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي إلي أجواء مواجهة دولية بين روسيا والصين من ناحية والولايات المتحدة وحلف الأطلنطي من ناحية. تتطور تلك الأحداث في أجواء عجز اقتصادي يلقي بظلاله علي العالم منذ عام 2008 فها هو بنك دويتشه الألماني الضخم يهدده الإفلاس وها هي الولايات المتحدة تبحر في بحر كساد اقتصادي كبير لا ينقصه إلا إعلانه.


يتواكب مع هذا عجز الولايات المتحدة والقوي الغربية عن حماية الشبكة الالكترونية كنقطة ضعف خطيرة تصل إلي مستوي العجز الاستراتيجي الكامل وتحول ( توازن الرعب الالكتروني ) إلي بديل لتعبيرات سابقة ك (توازن الرعب النووي). وهكذا فلقد كان الخلاف واضحا بين السيدة هيلاري كلينتون ودونالد ترامب في مناظرتهما التليفزيونية. إلا أنهما اتفقا علي شيءٍ واحد وهو أن هناك انتهاكات متكررة وخطيرة للشبكة العنكبوتية في الولايات المتحدة ومؤسساتها. لكنهما اختلفا علي من هو المسئول: فالسيدة/هيلاري حددت بوضوح أن هذا الطرف هو روسيا التي ترعي وتقود تلك التهديدات (مع سبق الإصرار والترصد)، بينما راوغها غريمها. فما هي طبيعة الانتهاكات وهل هي مجرد محاولات للتنصت علي ما يحدث في أمريكا أم أنها تتجاوز هذا وهل لها قيمة في الصراع الدولي بين روسيا والصين من ناحية والولايات المتحدة وحلف الأطلنطي من ناحية أخري؟

وحقيقة الأمر أن تلك الانتهاكات تتجاوز التجسس للقدرة علي شل إرادة مؤسسات عسكرية والحياة المدنية بشكل كامل ومفاجئ، وحيث لا يحتسب أو يتوقع أحد. ويستطيع المرء تتبع نماذج كثيرة لهذه الظاهرة، والتي هي بلا جدال تمثل ابتزازاً سياسياً واستراتيجياً لدول حلف الأطلنطي. ففي منتصف مارس 2014 أعلنت صحيفة الفاينانشال تايمز البريطانية أن موقع حلف الأطلنطي الالكتروني تم اختراقه وإيقافه من قراصنة إلكترونيين. ولقد تم ذلك في ذات الليلة التي كان من المفروض أن يتم التصويت فيها علي موضوع القرم. ثم نشرت البي بي سي في مايو 2014 أن الولايات المتحدة تتهم الجيش الصيني بأن به وحدة متخصصة لاقتحام المؤسسات الأمريكية. وفي مثال آخر أكثر تجسيداً في يوم 9 أبريل 2015 حدث هجوم اليكتروني (قيل إن داعش رتبه) علي موقع التلفزيون الفرنسي TV5 مما أدي إلي اختفاء 11 قناة فضائية لعدة ساعات..

ولقد تمددت الشبكة العنكبوتية بعمق في الولايات المتحدة وتوسعت منها لشمال غرب العالم ثم في العالم كله في تجسيد حي لظواهر العولمة. ففي أقل من 20 عاما تمددت الشبكة الالكترونية لتصبح ركيزة أساسية لأسواق المال وصارت هي (الوسيط الحقيقي) لإجراء ملايين العمليات التجارية يومياً، عمليات لا يتقابل فيها البائع ولا المشتري أبداً وتدور بسرعة ودقة مذهلة، لا تتوقف لثانية ولا تشهد أخطاء في كسر السنت أو الدولار. دخلت الشبكة العنكبوتية المطارات والموانئ تدير حركة السفن وهبوط وصعود الطائرات بدقة بالغة دون استناد للأوراق، ودخلت أيضاً في إدارة وتوزيع الكهرباء فتوجه التيارات الكهربائية أوتوماتيكيا إلي حيث الاحتياج، والأمثلة عديدة ومتباينة، فمن بطاقات الائتمان البلاستيكية التي يستخدمها الملايين حول الأرض لملفات المرضي في المستشفيات. تغير العالم وتحول إذن، فكما تتمدد الأعصاب من المخ إلي أطراف الجسد تمددت الشبكة الالكترونية تجمع المعلومات وتنقلها بسرعة هائلة إلي (عقل أو مخ) مراكز ومؤسسات الدول الصناعية فتخزنها في مراكز للذاكرة الالكترونية هي السيرفرز.

في لحظة الانهيار السوفيتي وما تبعه بدا أن سباق التسلح قد بلغ لحظة (مات الملك)؛ فلقد كانت روسيا مفلسة والغرب بأجهزته ومؤسساته يتقدم في كل المجالات، وعلي رأسها التسلح. ولكن التحول التكنولوجي الخطير في حياة الغرب – علي ما يبدو – لم يكن بعيداً عن جنرالات موسكو وبكين. فلقد كانوا علي وعي عميق بنشوء الشبكة الإليكترونية. وربما يكون قد رأي بعضهم أن هذا التحول يحمل في طياته كعب آخيلس. فاختراق تلك الشبكة الاليكترونية، والسيطرة عليها ثم إدارتها عن بعد، هي عملية فنية ممكنة، بل إنها في حقيقتها هي قلب العملية العلمية الحاكمة لتكوين الشبكة العنكبوتية ذاتها. وفي السنين الأخيرة ظهر ما يطلق عليهم الهاكرز أو قراصنة الشبكة العنكبوتية وهم أفراد ذوو معرفة عميقة وسوسة خاصة بالعقول الاليكترونية وإختراق حواجز الأمن في برامجها.

نشاط يتحول عند البعض من كونه لعبة أو هواية أو مجرد خروج عن القانون إلي نشاط محترف يكتسي بقيم سياسية أو أخلاقية. فهل تم يا تري تبني تلك الأنشطة وتحويلها إلي سلاح قادر علي إصابة الخصم بسكتة الكترونية؟ شك عالم الغرب فهو قاطرة الحضارة الإنسانية الحديثة. السكتة الالكترونية ستكون ذات تبعات سياسية ومالية خطيرة للأثرياء أما الأطراف الأقل تطورا في عالم اليوم من موسكو لبكين لغانا أو نيجيريا فلن يصيبها إلا رزاز تلك المواجهة لو حدثت.

ما أشارت إليه السيدة/كلينتون وما أشار إليه ترامب يتجاوز بكثير التجسس أو التنصت أو أنشطة أفراد كأصحاب الويكيليكس، فالتجسس علي التواصل بين المؤسسات في أي من الدول لم يكن أبداً ظاهرة جديدة فالتنصت علي أخبار الخصوم حرفة قديمة. إلا أن الوضع الحالي يتجاوز التنصت للقدرة علي إصابة الخصوم بشلل في الحياة المدنية والعسكرية والمالية فالأمر يبدو كما لو كانت عملية حماية التطور الالكتروني واعتماد الحياة عليه معضلة فنية لا يوجد لها حل مضمون حتي الآن. ربما يكون هذا العوار هو سبب إعلان أصحاب حلف الأطلنطي تعديل البند الخامس في معاهدة الدفاع المشترك بين الأعضاء باعتبار أن التعدي الالكتروني هو إعلان للحرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى