رأى

الأوزبك.. والدولة الطولونية في مصر                                        

استمع

بقلم: أحمد عبده طرابيك

       ترتبط الدولة الطولونية في مصر والشام باسم مؤسسها أحمد بن طولون التغزغزي التُركي الأوزبكي، حيث امتدت وتوسعت باتجاه الشَّام، لتكون بذلك أول دولة في مصر تنفصل سياسياً عن الدولة العباسيَّة وتتفرد سلالتها بِحكم الديار المصرية والشامية والتي امتدت فترة حكمها خلال الفترة من عام 254هـ/ 868م إلي عام 292هـ/ 905م. استطاعت خلالها أن تثبت أنه بمقدور هذه الدولة النمو والتطور والإزدهار. وقد شكلت أول تجربة حكم محلي تحكم فيه أسرة أو دولة حكماً مستقلاً عن حكومة الخلافة المركزية في بغداد.

      قامت الدولة الطُولونيَّة خلال الفترة التي شهدت تعاظم قُوَّة التُرك في الدولة العباسية وسيطرة الحرس التُركي على مقاليد الأُمور، وهي نفس الفترة التي كانت تشهد نُمواً في النزعة الشُعوبيَّة وتغلُّب نزعة الانفصال على شُعوب ووُلاة الدولة العباسية المُترامية الأطراف ، فكان قيام الدولة الطولونيَّة أحد أهم النتائج الحتميَّة لِتنامي هذا الفكر، خاصة بعد أن شهدت الدولة العباسية أقصي اتساع لها، وضعف مركز الدولة في بغداد في السيطرة علي جميع الولايات والمناطق الخاضعة لها.

     تعاقب علي حكم الدولة الطولونية علي مدار فترة حكمها الذي امتد لنحو سبع وثلاثين عاماً، خمسة حكام، هم: أبو العباس أحمد بن طولون، من عام 254 هـ/ 868 م إلي عام 270هـ/ 884م. أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، من عام 270 هـ/ 884م إلي عام 282هـ/ 895م. أبو العساكر جيش بن خمارويه، من عام 282 هـ/ 895 م إلي عام 283هـ/ 896م. أبو موسي هارون بن خمارويه، من عام 283 هـ/ 896م إلي عام 292هـ/ 904م. أبو المناقب شيبان بن أحمد طولون، من عام 292هـ/ 904م إلي عام 293 هـ/ 905م.

      ترجعُ أُصول أحمد بن طولون إلى قبيلة التغزغز التُركيَّة، وتحديداً إلى أُسرةٍ كانت تُقيمُ في مدينة بُخارى الواقعة في جمهورية أوزبكستان حالياً . فقد كان والده طولون الذي نُسبت إليه الدولة التي أسسها ابنه أحمد فيما بعد، كان مملوكاً جيء به إلى نوح بن أسد الساماني عامل بُخارى وخُراسان، فأرسلهُ بِدوره إلى الخليفة المأمون مع من أُرسل من المماليك التُرك في عام 200هـ/ 816م. أُعجب الخليفة المأمون كثيراً بهذا المملوك التُركي الذي ظهرت عليه علامات النجابة والإخلاص، فحظي عنده، وازدادت مكانته لديه، فأسند إليه وظائف عدَّة نجح في إدارتها بِشكلٍ لافت، فعيَّنهُ رئيساً للحرس، ولقَّبه بأمير الستر، واستمرَّ مُدة عشرين عاماً يشغل هذا المنصب الهام.

      أنجب طولون عدداً من الأبناء من بينهم أحمد الذي يُكنى بِأبي العبَّاس، الذي وُلد في 23 رمضان 220هـ/ 22 أغسطس 835م في بغداد من جاريةٍ تُدعى “قاسم”، ونشأ في كنف والده ورعايته مُختلفاً عن نشأة أقرانه أولاد العجم، فحرص على الابتعاد عن جو التُرك العابثين والآثمين، وكان يعيب عليهم ما يرتكبوه من منكرات، فاشتهر بين معارفه بالتقوى والصلاح، وبنفس الوقت بالشدة والقُوة والبأس نظراً لِتربيته العسكرية .

        بعد وفاة والده عام 230هـ/ 845م وهو في العشرين من عمره. فقد فوَّض إليه الخليفة العباسي المتوكل ما كان لِأبيه من الأعمال العسكريَّة المختلفة، وسُرعان ما أُتيح له أن يستولي على إمرة الثُغور ودمشق وديار مصر.، ومن ثم استطاع أحمد بن طولون الدخول في خضم الحياة السياسيَّة المُضطربة آنذاك في العراق، وهو يتمتَّع باحترام العنصر التُركي وينال ثقتهم، خاصة وأن العنصر التركي كان له مكانة كبيرة في البلاط العباسي، كما نال ابن طولون ثقة الخِلافة واحترامها، فكانت علاقته بِكُلٍ من الخليفتين المُتوكِّل بالله والمُستعين بالله جيِّدة، وقد بدأت صلته بِالمستعين بالله خِلال عودته من طرسوس ، عندما انضمَّ إلى قافلة تجاريَّة قادمة من بيزنطة تحملُ طرائف ومتاع رومية للخليفة، فأنقذها من قُطَّاع طُرقٍ الأعراب الذين تعرَّضوا لها في منطقة الرها، فاحتفظ لهُ الخليفة بالجميل ومنحهُ ألف دينار.

      تزوجت والدته بالأمير بايكباك التركي الذي عينه الخليفة ابو عبد الله المعتز بالله والياً على مصر في عام 254هـ/ 868م؛ وقع اختيار بايكباك على ابن زوجته أحمد بن طولون لِيكون نائباً عنه في حكم الولاية، ولم يكن له كل الولاية وإنما كان على الصلاة، وله الحاضرة المصرية “الفسطاط”. ومنذ أن قدم ابن طولون مصر، عمل على ترسيخ حكمه فيها، فقد سعي للتخلص من سلطة الوالي الأصيل بِإغرائه بالمال والهدايا التي كان يرسلها إليه.

       ساعدت الظروف أحمد بن طولون في تثبيت أقدامه في مصر، فقد حدث أن قُتِل بايكباك في عام 256هـ/ 870م، فأُسنِدت ولاية مصر إلى يارجوخ الذي كانت تربطه بابن طولون عَلاقات طيبة ومصاهرة، فأقره على ما بيده، وزاد في سلطته بأن استخلفه على مصر كلها، باستثناء الخراج الذي ظل بيد منافسه أحمد بن المدبر الذي اشتُهِر بسوء السيرة؛ مما دفع ابن طولون إلى أن طلب من الخليفة المهتدي أن يُقِيل ابن المدبر من خراج مصر ويولِّيه إياه، فاستجاب الخليفة لطلبه، كما ولاّه إمرة الثغور الشامية على إثر اضطراب أوضاعها . ولما تُوفي يارجوخ في عام 259هـ/ 873م أصبح ابن طولون حاكم مصر الشرعي من قبل الخلافة مباشرة، فتولى مقاليد الأمور كلها، ودانت له الإسكندرية وبرقة، وقدَّم له أمراء الكور فروض الخضوع والطاعة.

     عندما طلب إليه الخليفة أبو إسحاق مُحمَّد المُهتدي بالله أن يتولَّى إخضاع عامل فلسطين المُتمرِد على الدولة، سنحت لهُ الفُرصة التي كان ينتظرها، فقد أنشأ ابن طولون جيشاً كبيراً من المماليك التُرك والروم والزُنوج ودعم حُكمه به. وقد أخذ من الجُند والنَّاس البيعة لنفسه على أن يعادوا من عاداه ويوالوا من والاه. وبِفضل هذا الجيش استطاع أن يقضي على الفتن الداخلية التي قامت ضده، واستطاع أن يرفض طلب ولي عهد الخليفة أبا أحمدٍ طلحة بن جعفر الموفق بالله الذي كان يستعجله إرسال المال ليستعين به على القضاء على ثورة الزُنج بالبصرة. ومنذُ ذلك الوقت أصبحت دولة ابن طولون مستقلَّة سياسياً عن الخِلافة العباسية. وعندما طلب الخليفة إلى ابن طولون أن يتخلَّى عن منصبه إلى أماجور والي الشام، رفض ابن طولون ذلك، وتوجَّه إلى الشَّام وضمها إلى مصر.

       نشأ أحمد بن طولون، نشأةً عسكريةً في سامراء التي كانت حاضرة الخِلافة الإسلامية في ذلك الوقت، وكانت الحاجة ماسة في ذلك الوقت إلى ضابط شاب يخدم في ثغر طرسوس، له بأس لِقاء العدو والرغبة في الجهاد، وله من التقوى ما يناسب الجو الديني الخالص الذي شاع في المدينة، نظراً للأهمية الاستراتيجية والعسكرية الفريدة لهذه المدينة الواقعة على الحدود بين آسيا الصغرى والشام ، حيثُ تلتقي بلاد المسلمين ببلاد البيزنطيين؛ وفي نفس الوقت كان أحمد بن طولون قد طلب من الوزير عُبيد الله بن يحيى أن يكتب لهُ أرزاقهُ في الثغر سالف الذِكر، وعرفه رغبتهُ في المقام به، فوافق على طلبه وكتب لهُ به.

       خرج أحمد بن طولون إلى ثغر طرسوس وقضى فيه سنوات شبابه بعيداً عن الوسط التركي في العراق، حيث قضى حياته السياسية والعسكرية الأولى في ثغر طرسوس، وتمتع منذ البداية باحترام الأتراك في حاضرة الخلافة، وأخذ العلم والحديث والآداب عن كِبار العلماء في طرسوس، كما تزوج وأنجب، وتطلَع إلى الاشتراك في الصوائف التي كانت تغزو الروم، كما تعرف عن قُرب على الشام وما كانت تمتاز به من الأهمية العسكرية، وربما كانت أيامه الأولى فيها فاتحة طُموحه في تولِّيها مع مصر.

      كان أحمد بن طولون على العكس من الكثير من قادة الحرس الترك، يظهر احترامه وتقديره للخليفة العباسي إن دخل عليه أو تحدث عنه، وعندما نفي الخليفة إلى واسط، نتيجة صراعه مع المعتز والتُرك، سُمح له باصطحاب أحمد بن طولون معه، فكان رفيقه في منفاه، وكان هذا الاختيار وقبول الترك به كمرافق للخليفة، نتيجة للثقة التي حصل عليها من الجميع . وأثبت أحمد بن طولون أنه جدير بِهذه الثقة، فعامل الخليفة المستعين بالحسنى، ورفض طلباً لقبيحة، والدة المعتز، بِقتله مقابل تقليده واسط، وكان جوابه: “لًا يراني الله عز وجل أَقْتُل خلِيفةً لَه في رقبَتِي بيعَةٌ وَأَيمَان مغلَّظَةٌ أَبداً”، فسلّم الخليفة سليما لِأعدائه وهو يدرك مصيره المحتوم. وكان لموقفه هذا الأثر الكبير في نفوس الترك فأعظموا فيه دينه وعقله، وكبر في نظرهم، وباتوا يتطلَّعون إلى هذا الشَّاب ليتسلم زعامتهم، كما عُظم في أعيُن البغداديين.

       حرص أحمد ابن طولون على وضع نظم وتقاليد جديدة للبلاط الطولوني منذ اتخاذه القطائع عاصمة لمصر، حيث ترك دار الإمارة بالعسكر مقر ولاية العباسيين، وابتكر طريقة المراسم الرسمية، وقد وضع لكل مناسبة مراسم معينة حازت علي تقدير واعجاب القادة وعامة الشعب الذين كانوا يشهدونها، كما كان لهذه المراسم تأثير كبير لدي الأصدقاء والأعداء في الخارج علي حد سواء، حيث كانت تظهر وتعبر عن قوة وعظمة وهيبة الدولة. ومن هذه التقاليد خروجه من قصره، فكان يخرج في موكب مهيب، حيث يتم عرض فرق الجيش والحجاب، وتخلى له الطرقات . كما كان خروجه لصلاة الجمعة في المسجد، حيث يصطف العابرون تمهيداً لمسير موكب ابن طولون، فإذا حان وقت الخروج كانت تجهز له دار الإمارة القريبة من المسجد، حيث يجدد وضوءه ويبدل ثيابه وقت الصلاة، ويخرج إلى مقصورته ثم يعود إليها بعد انتهاء الصلاة، وغيرها من التقاليد التي تدل على الأحوال الجديدة في مصر، فلم يسبقه أحد من ولاة مصر السابقين لمثل هذه المراسم.

      عمل أحمد ابن طولون علي تطوير نظم الإدارة والتقاليد، حيث ظهرت أشياء جديدة تدل علي مدي فكره الواسع في الإدارة والحكم، فقد وضع الأضابير والجزازات والتقاييد، وكان حين يذهب إلى مكان ما يرافقه كاتب يدون كل ما يقوله أو يقال في حضرته، فإذا جاء الليل خلا ابن طولون بكاتبه وأصلح ما كتب ليحفظ ما دار من الكلام على حقيقته، ويرجع إليه عند الاقتضاء ، وكان إذا أرسل رسوال برسالة، طلب منه أن يعيد عليه ما قاله له، فإن أحسن الإعادة أنفذه، وإن خالف في حرف أمر بحبسه.

     كان لابن طولون دور كبير في تطوير ديوان الإنشاء الذي كان موجوداً قبل أن يتولي حكم مصر، لكن الديوان كان قليل الأهمية بالكتابة الديوانية، وقد أراد ابن طولون أن يكون لمصر مراسلاتها الخاصة من استفتاح للرسائل بالدعاء بصالح الدنيا والآخرة، والبشارة بوفاء النيل، والبشارة بالركوب لفتح الخليج، وقد اشتهر في هذا الديوان، العديد من الكتاب الذين يعملون بالكتابة والتحرير، وقد برز منهم طائفة من أئمة الكتاب مثل ابن عبد كان، وإسحاق بن نصير، وكان الكتاب لا يحررون كتاباً حتى يعرضوه عليه، وعاتب كاتبه أبو الضحاك محبوب بن رجاء؛ لأنه أنفذ كتابا بدون أن يعرضه عليه. ومما كتبه ابن عبد كان بأسلوبه المتميز كتاباته إلى العباس ابنه، التي تميزت برقة أسلوبه، فقد شكل وجوده في ديوان الإنشاء بداية لنهضة عظيمة في الديوان، أثارت حسد أهل بغداد، حيث كانوا يقولون إن في مصر كاتب ومحرر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما، وكانت الأمور التي ابتدعها ابن عبد كان قد بلغت من الفصاحة والبلاغة حداً جعل كُتاب الرسائل في العصر الفاطمي يقلدوه ويحذو حذوه .

      كان من وسائل إصلاحات أحمد ابن طولون في الجهاز الإداري أيضاً الاعتماد على الموظفين المصريين في المناصب الإدارية في الدولة، وتقديمهم على غيرهم، فقد اختار كاتباً مصرياً هو جعفر ابن عبد الغفار حين أرسل كاتبه الواسطي في مهمة إلى العراق، ولكن لم تكن لابن عبد الغفار نفس خبرة وكفاءة الواسطي، ورغم ذلك عندما أشير عليه أن يستبدله، قال: أنا احتمله وأقنع به لأنه مصري، ومن ثم فقد كان ابن طولون يفضل الموظفين المصري من أهل البلاد عن غيره، على الرغم من قلة خبرتهم، حيث كان يري أنه ينبغي لمن يكون في بلد أن يكون كاتبه منهم، ويكون شمل الكاتب فيه، ويدل هذا على بعد نظره حتى يستطيع الاعتماد عليهم في بناء دولته .

      شرع أحمد بن طولون في القيام بِأعمالٍ عمرانية تعبِر عن مدى اهتمامه الشديد بِمصر، وتعكس تطلعاته إلى إقامة إمارته الخاصة، فأسس ضاحيةً لِلفسطاط هي القطائع اتخذها عاصمةً لِإمارته، وشيد فيها مسجده المشهور باسمه ، وعمل علي تقوية الجبهة الداخلية من خِلال تنمية موارد الثروة، ومضاعفة الدخل في ميادين الإنتاج، وأصلح أقنية الري، والسدود الخرِبة.

حكم مصر بعد وفاة خمارويه ثلاثة من البيت الطولوني لم يزد حكمهم جميعاً على عشر سنوات، فقد خرجت بلاد الشام وما يليها عن طاعة أبو العساكر؛ فغضب عليه قوَّاد جيشه، وتبرأ العلماء من بيعته، وانتهى الأمر بخلعه وسجنه عام 283هـ/ 896م، وتولية أخيه الأصغر أبي موسى هارون 284- 292هـ وكان صغيراً لم يزد عمره عن الرابعة عشرة، الأمر الذي جعله لا يصلح للحكم. وفي عهده ظهر القرامطة في بلاد الشام عام 289هـ، حيث أسَّس أحد قوادهم وهو أبو سعيد الجنابي دولة القرامطة ببلاد البحرين عام 286هـ؛ واستطاعت هذه الدولة أن تبسط سيادتها على كثير من أرجاء الجزيرة العربية، فأرسل هارون جيشاً لمحاربتهم ببلاد الشام، ولكن هذا الجيش عجز عن إخراجهم من الشام وقمع خطرهم.

أحمد عبده طرابيك

باحث في شئون آسيا والعالم الترك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى