رأىسلايدر

الشهاوي.. أمير ممالك العشق

استمع

بقلم: د.سلوى جودة

أستاذة الأدب الإنجليزى بجامعة عين شمس


أن تدخل ساحة الشعراء فعليك أن تتلطف بما يليق بمكانية وزمانية الحدث وان تخلع نعليك وتدخل ببصمة قلبك فالواد مقدس وناره نور وملائكته حاضرون وخمرهم المعتق منذ ولادة الشاعر الأول حلال بلا شبهه ..وقبل أن أبدأ الكتابه طلبت من مساعدتي أن تزيد أعواد الريحان والياسمين في المزهريات وأن تضع على مكتبي أوراق غير مسطورة فالحواجز تعيق حريتي- فبحور الشعر واسعة حره ومعانيه تهب نفسها لمن أحسن وفادتها- وأن تخرج من ادراجي قلمي الذهبي الذي قلما كتبت به .والأن اي رداء ملكي ارتديه واي عطر يليق بجمال وجلال مايمنحه الشاعر من روحه ومن معانيها ومبانيها الثقال في الميزان حتى يصلنا..؟
أنه الشاعر الكبير أحمد الشهاوي ابن كفر المياسرة القرية التي يحتضنها النيل من ثلاثة جهات فتبدو كشبه جزيرة من الممالك الطبيعية لم تخدش براءتها يد الغشم بعد ففيها لملمت ايزيس اوجاعها وفيها خلق أول صوفي واول شاعر وأول عازف ناي وفيها تشابكت الابجدية فكانت أول رسالة سلام وفيها يبدو الفردوس قريبا بعدما نادى أدم لاول مرة حواءه ب “حبيبتي” ومنها جاءت المواويل العتيقة نصفها دمع ونصفها دعاء وفيها موالد الصوفية واحباب الشاذلية وليالي الذكر والإلهام..ويحضرني وأنا أرصد هذا الجمال شعراء النصف الاول من القرن التاسع عشر في المملكة المتحدة والذين اطلق عليهم شعراء البحيرة -نسبة الى المنطقة التي عاشوا فيها- والذين شكلوا الحركة الرومانسية في رقتها والثورية في جديتها واخلاصها في الدفاع عن المعدمين والفقراء ضد الطبقة الارستقراطية المتعجرفة أمثال وردثورث وكولريدج وروبرت سوثي وغيرهم فكانت الخبرة الجمالية معلمهم الأهم والأصدق..وفي مثل هذا المكان عاش الشهاوي الذي قدم أكثر من عشرين كتابا في أدب العشق والتصوف وفلسفة الدين وترجمت أعماله إلى الايطالية والاسبانية والتركية وحازعلى جوائز اقليمية ودولية وزار اكثر من 100 دولة حول العالم وبعضها زارها اكثر من 50 مرة ومن الصعب أن تصنف اعماله أوتخضعها لجنس أدبي أو تؤطرها أو حتى تقارنها بأخرى فهو الذي غرس زيتونته وهو جامعها وعاصرها وشجرته مباركة وكوكبه دري .. فلدية تجربة إنسانية فريدة ممزوجة باليتم والالم فلقد انتقلت أمه وهو في الخامسة من عمره وزلزلته مصيبة الفقد والطقوس الجنائزية لنساء القرية مازالت عالقة في سقف ذاكرته فلقد اعطته الحياة مبكرا درسها القاس الاول : أن يقول وداعا ومن يومها وهو يكتب..وهو من الشعراء القلائل الذين يذكرون اسماء امهاتهم في سياق يرى اسم المرأة عورة فكل كتبه مهداة إلى “نوال عيسى” فهي كل نساء الأرض وهي الأم في المطلق وهي سيدة الإلهام وكبيرة ملائكة العشق التي تملي عليه قصائده ومنها ولدت قداسته للنساء وكلما تأخر عنه الإلهام استدعاها بلطف البارالذي يعرف الطريق لخزائن الرحمة ومستودعات الجكمة “كُلَّمَا ضَعَتْ مِنِّي شَمَمَتْ قَلْبَها وَروحَتْ إِلَى سورَةِ الزُّهْرَةِ فِي مِيَاهِ الإِلَهِ” وفي البدء كانت نوال عيسى التي ورث عنها الاسماء كلها فهي ظله وانفاسه الرتيبة ورفيقته التي يحدثها كأنه يراها فأراها معه وتتلبسني ويشحذ فيني الأم الحبلى من لحظة الميلاد حتى الفوات:
نادرة كالاخضر
لك وسن ولألئ
وبيوت تمشي في الماء تغني حكمة ألهة
كانوا أول من حلبوا غيمة قلبي
احتاروا الالف بيانا للناس جميعا
أنت كتابي الأقدم
سفري في الأمثال
سفري في الريح
وفي اللغة الأم
أنت الأم
ولأن الأمومة سر من اسرار الله وان التي نكرم من اجلها في الأرض ترعانا وترقبنا فلا أفول لها ولاغياب ولان انبياء الكتابة لن يكفوا عن البوح مموسقا أو منثورا مهما تكدست الظلمات فيحدث الشهاوي أمه باللغة التي يفهمها بأن النجاة والأمل في العشق:
لم أخذ شيئا من الشعر
سوى منخل من الماء
ولم أخذ من العشق
سوى أمل من الخسران
ويظهر الحكاء السارد القديم بذاكرتة المخملية وخبرة البدايات في اشعاره فلقد شغلته الطبيعة البرية للبشر والموجودات ببساطتها وعلوها وصدقها وتجردها بلا افتعال أوتصنع فيدخلك واحة النساك والى”المطرح الأعلى في السماوات” ويعيدك إلى سيرتك الأولى, ولديه من الاخلاص لقارئه مايجعلك ممتنا له وهو الذي يدعوك بكل ماأوتي من قوة أن تقرأ نصه كأنك كاتبه وليس ذلك فحسب بل وأن تصبر على الحرف لأنه منك فقد تجد “روحك غرقى في سطر ما” وصدق حدسه فلقد سقط في قلبي نجم بحجم شاعرمنذ بدأت قراءته .. فهو يحمل تجربة مغموسة بالألم تشبهنا جميعا -فنحن لسنا مستثنون – ومايكتبه إلا بعض من تجلياتها بل ونارها ” أن بورك من في النار ومن حولها ” فينصح بلياقة وحرص العارف أن “غص واغرق, فما الغرق إلا نجاة من غرق أفدح”, ويذهب إلى أن “كل انسان يعيش بلا حب يعني أن الشر محيط به وان الحقيقة غائبة عنه وان موته كامن في ولادته وأنه في الخلف لا في الأمام” فالخلاص لديه مما تواجهه البشرية من صراعات وشرور يكمن في العشق فهو بوابة الإشراق illumination أي ظهور الانوار الالهية في قلب الانسان فيفقد هويته في الذات الإلهية ويترفع عما يفسد هذه العلاقة النورانية العلوية ويقول السهروردي احد أئمة الصوفيه ” إن النفوس إذا دامت عليها الإشراقات العلوية, تطيعها مادة العالم.. والنفوس المجردة , ويتقرر فيها مثال من نور الله ويتمكن فيها نور خلاق.”
يأخذك الشهاوي بكليتك بعد أن أصبح هو أنت إلى مدينة الروح ويفتح لك الابواب واحد تلو الاخر ويجلسك على عرشك ويتلو عليك كتابه فيخرج الحي من الذي قتلته فيك اسباب الحياة وخيبات البشر وفي حبكة درامية محببة يذكر كرامات والده الذي ظل خمس عشرة سنة يكتب بعد موته ويذهب كل بكور فيجد صفحات متروكة أمام قبره بكفر المياسرة حيث عاش ومات وفي يوم من أيام 1990 وجد صفحة واحدة فقط يوصي فيها: “اليوم اتممت لك كتاب ” دين الحب” هو لك إن شئت ضع اسمك عليه وإن لم تشأ انشره على الناس. لانه سيجئ يوم لن يكون بعيدا, سيصير الحب غريبا بين الناس, يمشي في الشوارع وحده فلا يعرفه أحد, إذ سينظرون إليه نظرة العقلاء إلى المجنون”صدق طيف والدك ووالدنا ياأحمد فالحياة بدون الحب جامدة قاسية مرعبة مخيفة يسكنها اشباح وابالسة وقطاع الأحلام وسارقي النطف ويحكمها الانطاع ومصاصي الدماء وفقهاء الغبرة ويسقط نجومها إلى الأرض وتنفجر فيها براكين الغضب وتسير جبالها ليلا إلى ينابيع الأنهار فتسدها ويهرب قوس قزح بألوانه من دائرة القبح وتغيب الابجدية فكيف لها أن تستقيم بدون الكلمات الحبيبة وكيف للألف أن تحيا بدون “أحبك”. ويقول الشهاوي
أن المحبة هي سبيلك إلى الله وأن” من يعشق مبارك, ومقدسة روحه, وأرضه واسعه, يد قلبه بيضاء من غير سوء, حيث الحب كتابه وسنته, أما الذين يلبسون الحب رداء لهم فهم نخالة الارض وكناسة دكاكين الهوى إذ لا يمكن للكناسة أن تصير واحدا صحيحا حتى لو سكبت في مصهر لذهب”. اصدارات احمد الشهاوي هي أحوال ومقامات تأخذ بتلابيب قارئها ولا تتركه إلا وقد ألهمته الطريق وسيتوجه الشعر الذي لاحياة بدونه أميرا على عرش ممالك العشق في عصرنا هذا وعصور قادمة وعليك أن تنتبه إن كنت تبغي السلامة فالحياة بعده لن تكون كالحياة قبله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى