رأى

قراءة متأنية لأمر محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل حول غزة

استمع

نوران  عزالدين

وصفت العديد من الأطراف الدولية الفاعلة قرار محكمة العدل الدولية بالتاريخي، حيث رحبت جنوب افريقيا به واعتبرته انتصار ساحق لدولة القانون الدولي، وخطوة هامة في مسار تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، فيما اعتبره وزير الشؤون الخارجية الفلسطيني بمثابة تحذير هام مفاده انه لا يوجد دولة فوق القانون، مذكرًا أن الدول لديها الآن التزام قانوني واضح بوضع حد لحرب الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل.

لم يلقى القرار الاصداء ذاتها لدى الجانب الإسرائيلي، حيث وصفه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بانه خاطئ ومشين، مؤكدًا على ان بلاده ستستمر في الدفاع عن نفسها في إطار احترام القانون الدول، متجاهلاً بذلك تهديد المحكمة.

استطاعت محكمة العدل الدولية بموجب هذا القرار تصنيف الأعمال الاجرامية التي يقوم بها العدو المحتل على كونها تندرج تحت طائلة اتفاقية الإبادة الجماعية، وجاء هذا القرار على أثر الدعوى التي تقدمت بها جنوب افريقيا ضد إسرائيل، متهمةً إياها بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بالإبادة الجماعية التي تم إقرارها في 1948 في اعقاب الحرب العالمية الثانية والهولوكوست، حيث طالب محامون جنوب افريقيا المحكمة باتخاذ 9 تدابير طارئة، يأتي من بينها تعليق العمليات العسكرية الإسرائيلية، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، والتوقف عن تدمير حياة الفلسطينيين في غزة.

قد يدفع هذا القرار الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتخاذ خطوات ملموسة من شانها منع الاعمال الاجرامية التي تقوم بها الجيش الاسرائيلي إزاء الشعب الفلسطيني، على سبيل المثال امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن تصدير الأسلحة والتقنيات العسكرية لها، التي ازدادت عزلتها مع اتساع دعوات وقف إطلاق النار.

اعتقدت بعض وسائل الإعلام أنه من المناسب القول على عجل أن قرار محكمة العدل الدولية جاء منصفاً للدبلوماسية الجنوب افريقية – غير أن الحقيقة منافية لذلك – حيث أظهرت القراءة المتأنية للقرار الصادر عن محكمة العدل الدولية رداُ على الطلب التي تقدمت به جنوب افريقيا بشأن اتخاذ تدابير وقائية مؤقتة لوقف الابادة الجماعية في غزة، لا سيما تعليق العمليات العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلي، أن هذا قرار يكرس حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، كما انه يشير أيضًا إلى أن طرفي النزاع يتحملون مسؤولية ما يحدث الآن في غزة، مدعومةً بالدلائل القانونية والوقائعية التي تثبت ذلك.

يعتبر قرار محكمة العدل الدولية ملزمًا قانونيًا، غير أنها لا تمتلك الوسائل الكافية التي تمكنها من أنفاذ هذا القرار، من جهة أخرى، ومن جهة أخرى فأن القرار يتعلق فقط بإصدار عدد من الإجراءات المؤقتة التي لا تتوافق مع أهمية القضية التي يتم بموجبها تحديد إذا ما كانت إسرائيل قد ارتكبت بالفعل جرائم الإبادة الجماعية أم لا.

مما لا شك فيه، أنه كلما تسبب نزاع مسلح في الاضرار بالمدنيين – وهو الحال دائمًا – كلما كان هناك محاولات مماثلة للتلاعب بالعدالة الدولية. لذا فأن قرار محكمة العدل الدولية ليس مخالفًا لهذا المنطق.

تجدر الاشارة إلى أن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها الموقعة في 9 ديسمبر 1948 التي تعتبر الاساس التي استندت عليه جنوب أفريقيا في الدعوى التي تقدمت بها واتفاقيات أخرى ذات صلة بحقوق الانسان لها خصوصيتها التي تسمح بحق الطعن فيها على نطاق واسع، اخذًا في الاعتبار الأهداف الإنسانية والحضارية البحتة لهذه الاتفاقية، فالمادة التاسعة منها تعطي الحق لأي دولة متعاقدة في مهاجمة دولة متعاقدة أخرى لتذكرها بواجباتها، أذ يكفي أن يكون هناك خلاف بين الطرفين حول تفسير الاتفاقية وسبل تطبيقها وانفاذها (قضية غامبيا وميانمار 2020).

لقد طالبت المحكمة بشكل مبدئي أن تكون المواجهة واضحة، أي يتم بلورتها من خلال الحوار، حيث أن تناول القضية عبر قنوات الأمم المتحدة اومن خلال وسائل الإعلام لم يكن كافياً، وإذا ما اعتبرته المحكمة كافيًا، فربما يكون ذلك من منطلق حرصها على الا تكون مخيبةً لتوقعات الرأي العام الدولي.

من بين العناصر الإيجابية في هذا القرار: استيضاح النقاط القانونية الرئيسية في الازمة، لا سيما بالنسبة لإسرائيل ومدى شرعية ردها العسكري، كذلك الاختصاصات القضائية للمحكمة التي قادتها للتحقق إذا ما كانت ادعاءات جنوب افريقيا بشأن اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية – عن طريق العمد أو الخطأ – مبنية على أفعال تدخل في نطاق اتفاقية الإبادة الجماعية، وكان الجواب ايجابيًا، حيث أن المحكمة في سياق المطالبة باتخاذ تدابير مؤقتة لا تنظر في الحجج القانونية والوقائع التي يحتج بها مقدمي الطلب، واكتفت بالتأكيد عل انه في حال ثُبت صحة هذه الوقائع سيعتبر الأمر بمثابة انتهاكًا لاتفاقية الإبادة الجماعية وأن حق الاحتماء بهذه الاتفاقية هو امر مقبول. على سبيل المثال، فأن ادعت جنوب أفريقيا أن مسألة منع المظاهرات المناصرة للفلسطينيين يندرج ضمن اختصاص الاتفاقية، فربما كانت دعوتها مرفوضة، كما أن التطرق للكارثة الإنسانية في غزة ومزاعم قيام إسرائيل بالقضاء على جميع سكان غزة قد مهد الطريق لقبول الدعوى.

هناك أمر أغفل العديد من المعلقين التنويه عنه هو أن محكمة العدل الدولية لم تتطرق لمصداقية الادعاءات التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ومزاعمها قيام اسرائيل باستهداف المدنيين في غزة، الامر الذي رفضه القادة الإسرائيليين بشدة.

وبعد الاستشهاد بتصريحات مسؤولي الأمم المتحدة (الأمين العام والمفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسط (الاونروا)،

 تطرقت المحكمة في قرارها فقط إلى ضرورة حماية الفلسطينيين، بما في ذلك سكان غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، اخذًا في الاعتبار الحالة الإنسانية في قطاع غزة، غير انه بالرغم من ذلك لم تبلغ جنوب أفريقيا هدفها وهو اصدار المحكمة امرًا ينطوي على التعليق الفوري للعمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي.

وفي سياق التدابير المؤقتة التي تهدف إلى الحفاظ على الحقوق المنصوص عليها في اتفاقية الإبادة الجماعية، فأن المحكمة قد اكتفت بالاجراءات المؤقتة التي اعلنتها دون التعرض للطلبات التي تم رفضها وأعطاء مبررات منطقيه حولها، على سبيل المثال وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، والتي كانت في صدارة أولويات جنوب افريقيا، على غرار ما حدث في ازمة أوكرانيا حيث أمرت المحكمة خصمها بتعليق عملياته العسكرية.

اكتفت المحكمة فقط بمطالبة إسرائيل باتخاذ كافة التدابير التي في استطاعتها لمنع ارتكاب أية اعمال ضد الفلسطينيين تدخل في نطاق تطبيق الاتفاقية، وبذلك يصعب تحميل الجيش الإسرائيلي مسؤولية قتل المدنيين، وأشارت بشكل خاص إلى التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الغزوين والذي جاء على لسان بعض المسؤولون السياسيون في إسرائيل.

وفيما يتعلق بما تبقى، فأن إسرائيل مدعوه إلى اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على صحة الأدلة التي قدمتها وتقديم تقرير في غضون شهر للمحكمة يتضمن الإجراءات التي قامت بها في إطار تنفيذ أمر المحكمة.

وختامًا، وبطريقة غير مسبوقة، فقد يبدو أن محكمة العدل الدولية ليست راضية عن فكرة مُسائلة اسرائيل، فقد أشارت -خارج نطاق الدعوى- إلى أن جميع أطراف النزاع في قطاع غزة مقيدين بالقانون الدولي الإنساني وإذ يساورها القلق إزاء مصير المختطفين في احداث 7 أكتوبر، والذي احتجزتهم حماس وجماعات مسلحة أخرى بحسب قولها، مطالبةُ بالإفراج الفوري وغير المشروط عن هذة الرهائن.

 والسؤال الذي يدور هنا، هل تريد المحكمة تذكير جنوب أفريقيا ضمنياً بواجبها تجاه المساعدة في تطبيق الاتفاقية من خلال استخدام سلطتها في التأثير على حماس لتحرير الرهائن.

وفي حال اخفاقها في ذلك، فربما يتم اتهامها بعدم الوفاء بالالتزامات التي تقع على عاتقها بوصفها دولة عضو في اتفاقية الإبادة الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى