رأى

أرابيسك دبلوماسى مصرى

استمع
السفير معصوم مرزوق1520567de340e74728278b800af80e47
هل نجحت إدارة الرئيس السيسى فى تأمين سياسة خارجية ناجحة خلال عامها الأول؟.. أغلب المعلقين على هذا السؤال يذهبون إلى أن هذا هو الملف الذى تحقق فيه الإنجاز الأبرز ..

كان معيار البعض فى قياس مدى نجاح السيسى فى سياسته الخارجية معياراً كمياً، أى حاصل جمع بسيط لزيارات الرئيس الخارجية مع عدد الزيارات الرسمية التى استقبلتها القاهرة، بالإضافة إلى المؤتمرات التى عقدت خلال العام المذكور على الأراضى المصرية…

وهذا معيار لا بأس به، لولا أنه لا يقدم إجابات شافية للأسئلة التى يطرحها التحرك الدبلوماسى المصرى فى ملفات محددة (مثل الأمن والمياه ونزع السلاح .. إلخ)، كما أنه لا يوضح نسق الأسبقيات الذى انتظمت فيه هذه التحركات..

من نافلة القول أن السياسة الخارجية أشمل وأعمق من مجرد زيارات رسمية….

لقد تعمدت أن يكون العنوان «أرابيسك» كى يشير إلى أن منهج المقال هو تناول مجرد قطع صغيرة قد تشكل كما أرجو نوعاً من التأثير الكلى .. فلن أحاول فى هذا المقال أن أنزلق إلى تفاصيل قد يكون بعضها ضاراً بالموقف المصرى من بعض الملفات، مثل ملف المياه على سبيل المثال أو ملف نزع السلاح.. وإن كنت أرجو أن يتيح العرض التالى بعض الإشارات المفيدة لما أظن أنه يمثل سياقاً معقولاً لسياسة خارجية ناجحة..

لقد لاحظت أن كل من تعرض لبحث وتحليل سياسة مصر الخارجية خلال الفترة السابقة ، ركز فى الغالب الأعم على تحديد «ما يجب» أن يقوم به صانع القرار، وأظن أن ذلك خطأ منهجى، لأنه فى مجال البحث والتحليل لن يكون مفيداً أو هاماً أن نحدد لصانع القرار كيفية معالجة المشاكل التى يواجهها فى مجال السياسة الخارجية، وإنما«كيف» يفكر فى وسائل لمعالجة المشاكل بشكل منهجى ..

فلن يكون مفيداً لأى باحث أو محلل (بطبيعة الحال ليس المقصود هنا مستشارى الرئيس أو أولئك القريبين من دائرة صنع القرار) أن يحدد «ما يجب» مثلاً أن تقوم به مصر فى الأزمة اليمنية، وإنما يمكن دائماً إيضاح « كيف « يمكن لصانع القرار أن ينظر من زوايا مختلفة إلى تلك الأزمة، والخيارات المتاحة وفقاً لكل زاوية اقتراب..

وقد يلزم أن أشير هنا إلى أن المشكلة الكؤود التى تعاف منها مصر على جميع مستويات الإدارة هى التأرجح ف القرارات بين أمراض ثلاثة: «التردد»، «التراجع»،«الجمود».. وأستطيع أن أضيف إليها مرضا رابعا عضالا أصبحنا نعانى منه بشدة خلال السنوات الماضية وهو مرض «الفساد»..

وما سبق يكتسب أهمية قصوى فى عملية صنع القرار بوجه عام، وفى السياسة الخارجية بوجه خاص..

«التردد».. يفقد صانع القرار وقتاً ثميناً، وربما فرصة يصعب تعويضها..

«التراجع».. حتى فى حالة القرارات الخاطئة، يفقد صانع القرار ثقته فى نفسه وثقة الآخرين فيه، وذلك له تبعات خطيرة فى السياسة الخارجية ..

«الجمود».. هو أسلوب خاطئ لتفادى المشاكل على اعتبار أن ذلك يحمى من الوقوع فى الأخطاء ، ولا شك أن الهروب من مواجهات حتمية يؤدى إلى نتائج كارثية، ويمكن أن نشير هنا مثلاً إلى سياسة مصر الخارجية فى إفريقيا بعد محاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا عام 1995..

أما «الفساد».. فأنه يفسد كل شىء فى السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق، وتأثيره على السياسة الخارجية يحتاج مقالاً خاصاً ..

إن المبالغة فى تقدير حجم المخاطر المحدقة بالوطن أو فى تقدير القدرات الذاتية على مواجهتها لن تؤدى إلى بناء سياسة سليمة ناجحة، وربما تؤدى إلى العكس (وكلنا نعرف قصة «الذئب.. الذئب»)..

لذلك فإن مواجهة أزمات الإقليم مثلاً ، تتطلب من اللاعبين الرئيسيين رؤى جديدة تتيح لهم العمل معا، وهذه الرؤى سوف تختلف بالضرورة وبشكل جذرى عن أشكال العلاقات السائدة حالياً، أو بأى صورة كانت لها فى الماضى..

لإيضاح ذلك أشير مثلاً إلى السياسة الأمريكية تجاه إيران التى كانت تتلخص فى سياسة «احتواء إيران» وحصارها منذ نجاح ثورتها وحتى 2013 تقريباً.. وأى قراءة حالية لتلك السياسة توضح أنه يبدو أن الساسة فى واشنطن قد فشلوا فى إيجاد وكلاء محليين لمواجهة تغلغل النفوذ الإيرانى فى المنطقة ، فقرروا إجراء بعض التعديلات على سياستهم فى إطار تعديلات أخرى فى منطقة الشرق الأوسط بوجه عام ، ومنطقة الخليج العربى على وجه الخصوص ..

لقد تناولت فى مقالات سابقة إشكالية إيران ، ولذلك فإن القدر الذى أريد أن أعيد التأكيد عليه فى هذا «الأرابيسك» هو أن السياسة الخارجية المصرية لديها مساحة هامة للحركة تستطيع أن تختبرها على الأقل، وأن تطوير العلاقات مع إيران لن يكون على حساب العلاقات مع دول الخليج العربى..

أرجو فى ختام هذا المقال أن تكون بعض قطع الأرابيسك قد دخلت بالفعل فى إطار صورة عامة لمنهج جديد فى التفكير، لأن المساحة المحدودة للمقال تجبرنى على الاختصار، وأؤكد مرة أخرى أنه لا ينبغى على الباحث أو المحلل أن ينصب من نفسه قاضيا يحكم على سياسة خارجية جارية، لأن هذا المجال يستعصى على أحكام ذات صفات قضائية ، فليس فى السياسة الخارجية أحكام مطلقة أو نهائية ، وإنما دبلوماسية تتحرك بوعى وتنتج طول الوقت مقترحات متنوعة لحلول وسط.. إن كل الأزمات التى تعصف حالياً بالشرق الأوسط يمثل فيها اللاعبون الأقليميون أرقاماً فى معادلات الحل ، ولا يجوز بالتالى إهمال أو إسقاط أى رقم، إلا إذا أسقط نفسه فى حالة صفرية أو دفعته الأرقام الأخرى إلى هذه الحالة.. أى الحالة التى يفقد فيها أى أثر أو تأثير على مجريات الحوادث، أو يفقد اهتمامه بها..

وفى النهاية أهمس لمن قد يهمه الأمر أنه إذا أثبتت سياسة ما فشلها فى تحقيق أهدافها، فأنه ينبغى البحث فوراً عن بدائل، لأن الإصرار على مواصلة سياسة فاشلة، يشبه محاولة الخروج من حفرة بمواصلة الحفر فيها…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى