سلايدر

مؤرخ إسلامي مصرى: الطاعون يضربُ بلادِ المشرقِ الإِسلامي ويدفع الناس لبيع أبنائهم لأجل الطعام

استمع

 ربيع شاهين

شارك باحث ومؤرخ اسلامي مصري بمؤتمر عبر الكونفرانس حول“الأوبئة عبر التاريخ” نظمه قسم التاريخ والآثار بجامعة الكويت يومي 20-21 ابريل الجاري..وكشف عن أن الناس في هذا الوقت ومن شدة المعاناة من أثر الطاعون أضطروا الي بيع أبنائهم للحصول علي الطعام. 

تناول الباحث ” الدكتور إسماعيل حامد إسماعيل علي“طاعونُ آواخر القَرن السابعِ الهِجري وأثرهُ في بلادِ المشرقِ الإِسلامي..

يُقدم هذا البحث نمُوذجًا لصنفٍ من”الطاعون”والأوبئة والقحط وقلة ماء النيل، كل ذلك حدث في ذات الوقت،وقد أصابت هذه الكوارث المصريين،وغيرهم من الشعُوب في بلاد المشرق الإسلامي آواخر حقبة القرن 7هـ/13م. وقد بدأ هذا “الطاعونُ الجائح” منذ سنة 695ه، ودام بضع سنوات بعدئذ. وهذا “الطاعون”، وما رافقهُ من صُنوفِ البلاءِ كان من أقسى ما وقع بالمصريين والشعوب الأُخرى إبان “العصر الوسيط”.

وقال الباحث ” حتي يُمكننا أن نُدرك كم كان مصابُ الناسِ فادحاً آنذاك، نورد نُتَفاً مما دونه المؤرخ “المقريزي” (ت: 845هـ) في روايته: “ودخلت سنةُ خمسٍ وتسعين (أي سنة: 695هـ) وبالناسِ شدةٌ من الغلاء، وقلةُ الواصل..وهَبت ريحٌ سوداء مُظلمة من نحو بلاد برقة هبوباً عاصفاً..وأعقَبت تلك الريحُ أمراضٌ وحُمياتٌ عمت سائر الناس..وأقحَطت بلادُ القُدس، والساحل، ومدن الشام إلى حلب وكان ببلاد الكَرَك والشُوبك وأقحطت مكةُ وفشت الأمراضُ بالقاهرة، ومصر، وعظُم الموتان”.

ومن ثم، فلم يكن طاعونًا فحسب، بل عم القحطُ، وزاد الغلاءُ، وغير ذلك من البلاء الشديد، ولاريب أننا في مسيسِ الحاجةِ لدراسةِ هذا النوعِ من الأوبئة والأمراض في إطار المنهج التاريخي، لنأخذ “العِبرة” منها، وكيف تجاوز الناسُ تلك المحنة، والتأكيد على أنها أمورٌ عارضةٌ في حياتنا، قد تضربُ الناس أحياناً، ومن ثم يُعانون وقتها أشد العناء، ثم يذهبُ “الطاعون” لحاله، ولكن يجب أن يعقُب ذلك البلاء بعضُ “التفكير”، و”مُراجعة النَفس”، إذ إن الابتلاءُ دوماً مرتبطٌ بالمعاصي. وقد أصاب هذا “الطاعونُ الجائح” مصر وغيرها من البلاد سنة 695هـ، وهو “العام الثاني” من حُكم “العادل كتبُغا” أحد سلاطين المماليك (648-923هـ/1250-1517م). وتُشير أكثر المصادر إليه باسم “الوباء”، ويذكره بذلك الاسم “النُّويري” (ت:733هـ) ، و”المَقريزي” (ت: 845هـ)، و”ابن تَغري بَردي” (ت: 874هـ). بينما تذكره بعضُ المصادر الأخرى باسم “الطاعون”، ومن ذلك رواية “ابن إياس” (ت:930هـ)، فيما تذكره رواياتٌ أخرى باسم: “الفناء”. وفي رواية للنويري، يصف الطاعون بأنه: “الفناء العظيم..”، إشارةً لما سببهُ هذا الطاعون المُهلك من فناءٍ، وهلاك أعدادٍ هائلة من المصريين وغيرهم آنذاك.

وتذكر المصادرُ أنه (في سنة 695هـ) وقع غلاءٌ شديد، واشتدت الخطوبُ بالناس، ورغم ذلك كانوا ينتظرون فرجًا قريبًا، وكانوا يُمنون أنفسهم بمجيء موسم الغلال حتى تنضبط أمورهم، وتعود لطبيعتها. ولما أدرك الناسُ وقت الحصاد، وصاروا أقرب ما يكون منه، وقع بهم البلاءُ، وفي ذات الوقت انقطع ماءُ النيل. تقول المصادرُ: “وكان قرُب أوانُها، فعند إدراك الغلال، هبت ريحٌ سوداءٌ مظلمة، من نحو بلاد برقة هبوبًا عاصفًا، وحملت تُرابًا أصفر كسا زروع البلاد، فهافت كلها (أي: ذبلت)، ولم يكن بها إذ ذاك إلا زرعٌ قليل، ففسَدت بأجمعها، وعمت تلك الريحُ والترابُ إقليم البحيرة، وإقليم الشرقية، ومرت إلى الصعيد الأعلى، فهاف الزرعُ، وفسد الصيفي من الزرع، كالأرز، والسمسم، والقلقاس..وتزايدت الأسعارُ..”.

وتلك روايةٌ مُهمةُ تصف ما حل بالمصريين من المعاناة والمحن آنذاك، وأن الشدة جاءت بما لم يتوقعه الناسُ. ولم يقتصر الخطبُ على ذلك، إذ تدهورت أمورهم، وأبدانهم، فأصابتهم الأمراضُ، والأوبئةُ بما لايحتملون، ولهذا يقول المقريزي: “وأعقبت تلك الريح أمراضٌ وحمياتٌ عمت سائر الناس..”. وهو ما يُشير إلى شدة البلاء الذي وقع بسبب الطاعون، وأن الأمراض انتشرت بين الناس، وكان أبرزها ما يرتبط بـ”الحُمى”، وهو المرضُ الذي يرتبط دومًا بـ”الطاعون”. ثم تكمل رواية المصادرُ التاريخية في وصف تلك الصورة القاتمة، والمأساوية التي وقعت بالمصريين بعد أن وقع هذا البلاء، حيث اختفت من الأسواق المواد التي كان يحتاجها المرضى للتداوي، ومن ثم ارتفعت الأسعارُ ارتفاعات هائلة، وهو ما زاد من معاناة الناس. بل إنا ما زاد الطين بلة أن بعض الجشعين من التُجار قاموا بتخزين البضائع والسلع لتقل في الأسواق، ومن ثم ترتفع أسعارُها، وهو ما يكاد يحدث في أيامنا، وكأن أحداث التاريخ تتكرر ذاتها.

ووفقا للدكتور ” حامد ” : تذكر بعضُ المصادر أن عُدة من هلك بمصر وحدها بسبب “الطاعون” و”القحط” آنذاك بلغ حوالي 127 ألف شخص. وهو رقمٌ هائلٌ، غير أنه يُشير لأي مدى بلغ البلاءُ بالناس في ذلك الوقت العصيب. كما تذكر المصادر أنه لما تزايد الوباءُ بمصر،كان يخرج من كل باب من “أبواب القاهرة” ما يزيدُ على 700 ميتٍ يوميًا، وكان يتم تغسيلُ حوالي 150 شخص من الغرباء، وممن كان يُعثر عليهم طُرحاء الأرض كل يوم. ولما زادت الأمورُ سوء أكثر، لم يكن المصريون يُغسلون الموتى، بل كانوا يُدفنون موتاهم دون غُسلٍ، ولا كفنٍ، وكان الشخصُ يُدفن في ثوبٍ، ولما يُوضع في حُفرته، كان يُؤخذ ثوبه حتى يُكفن فيه شخصٌ آخر، ولهذا كان الناسُ في ذلك الوقت يُكفنون عدة أموت بثيابٍ واحد. وتذكر بعضُ الروايات التاريخية أنه بلغ عدد من كان يموت في مصر آنذاك بسبب الوباء والقحط قرابة 3 آلاف شخص كل يوم.

ورأي الباحث ” د. اسماعيل حامد ” أنه من “الصور الإيجابية” التي وقعت آنذاك، أن السُلطان (كتبغا) اجتمع بالأمراء والأثرياء، وألزم كل واحد منهم بأن يتكفل بعدد من الفقراء وذوي الحاجة، كل حسب طاقته وإمكانياته، فال بعض منهم تكفل بمائة من الفقراء والمُحتاجين، وآخرون تكفلوا بخمسين منهم، وآخرون أعانوا أقل من ذلك. كما أن بعض الأثرياء فتحوا حقولهم ومزارعهم للفقراء ليأكلوا منها ما شاءوا، وهو ما كان سببًا في حل جانبٍ كبيرٍ من تلك الكارثة التي أصابت المصريين في ذلك الوقت. ورُويدًا رويدًا بدأت الأمور تهدأ، وعاد جريان نهر النيل، وزاد منسوبه. ثم تذكر المصادرُ أن الأثرياء الذين أعانوا الفُقراء زاد الله بركة أموالهم، فكان ذلك من بركة الصدقة التي قدموها للفقراء حسب رواية المصادر ذاتها. بل وتذكر المصادر أن التُجار المُحتكرين أفسد الله عليهم جالهم، وأتلف ما أخفوه من السلع والبضائع، ونالوا خسارةً فادحةً جراء فعلهم السيء، ومنهم من أقام البيوت بأموال هذا الاحتكار، فأهلك الله ما بنوه عقابًا لهم على جُرمهم الذي فعلوه.  

أحوالُ المُسلمين في بلادَ المشرق وقت الطاعون:

ولفت د. حامد الي أن هذه المحنةُ” لم تقف عند المصريين وحدهم في ذلك الوقت الذي ضرب الطاعون بلادهم، وإن كانت مصر هي الأكثرُ تضررًا من هذا “الطاعون الجائح”، بل أصاب الجفافُ والقحطُ، وكذلك الأمراض العديد من بلاد المشرق الإسلامي. وعن ذلك يقول تقي الدين المقريزي في روايته: “وقحطت بلادُ الشرق، وعدمت دوابهُم، وهلكت مراعيهُم، وأمسك المطرُ عنهم..”. وعلى هذا البلاءُ والقحطُ الكثير من البلاد، ولكن على اختلاف حدة البلاء، وشدته، وتنوعه على كل شعب منهم. فقد ضرب القحطُ فلسطين، وكذلك انتقل إلى باقي بلاد الشام على ساحل البحر المتوسط، ومن ثم امتد البلاءُ الجائح للمدن الأُخرى بالشام حتى حلب، ودمشق”.

وتابع : ثم زادت الأسعارُ في هذه البلاد، حتى أضحى سعرُ “غرارة القمح” حوالي 220 درهمًا، وهو أضعافُ سعرها الطبيعي، وصار سعرُ “الشعير” حوالي 110 درهمًا، وصار سعرُ رطل اللحم لنحو 10 دراهم، والفاكهة أربعة أمثال ذلك. كما بلغت الشدةُ بلادًا أُخرى، حيث ظهرت أعراضُها في الكرك، والشوبك بالأردن حتى أن الوُلاة حملوا ما وضعوه في مخازنهم الخاصة من أجل الحروب، والطوارىء، ثم حملوا كل ذلك إلى سكان الأمصار التي وقع بها هذا البلاء. وعن ذلك تقول الرواياتُ: “واشتد الأمرُ على أهل دمشق، ونابلس، وبعلبك، والبقاع، وغيرها، وكانت أيامٌ في غاية الشِدة من الغلاء، وكثرة الأمراض، والموت، وعُموم الظُلم..”.

ثم انتشرالقحطُ  آنذاك بـ”جزيرة العرب”، “فأقحطت مكة”، وارتفعت بها الأسعارُ، واضطر أهلُها أن يُغادروا أرضهم، “حتى لم يبق بها إلا قلةٌ من الناسِ، بل وأخذ الناسُ ينزحون من باقي مدن وقُرى بلاد الحجاز. وهي إشارةٌ واضحة على أن الأمر لم يكن لمجرد وقوع “القحط” والجفاف، بل كان أيضًا بسبب وقوع الأمراض والأوبئة بالسكان أيضًا في ذلك. ولم يكن أهلُ اليمن بعيدين عن هذه المحنة الشديدة، فأصابهم “القحط” و”الطاعون” في آنٍ واحد، وفرت أعدادٌ كبيرةٌ منهم من آراضيهم إلى ساحل “البحر الأحمر”،وعن ذلك تقول المصادرُ:”وعدم القوتُ ببلاد اليمن، واشتد الوباءُ، فباعوا أولادهم في شراء القوت”وهو ما يعني أن الناس في هذه البلاد كانوا من شدة المعاناة  بسبب ما حل بهم من الوباء والقحط الشديد وذلك للحد أنهم يبيعون أبناءهم للحصول على الطعام والأقوات. كما تذكر المصادر أنه لما هرب سكانُ اليمن ومكة من أرضهم، ذهبوا للساحل، وتلاقوا هناك، وضاقت بهم البلاد، مما زاد من أعداد الهالكين منهم. وعلى أية حال ضرب الوباء والقحط بلاد الشرق، وتكاد لم تسلم بلدٌ هناك من تلك الشدة، إذ لم يكن البلاء مرتبطًا ببلدٍ واحدٍ، وعن ذلك تذكر الرواياتُ: “وقحطت بلادُ الشرق، وعدُمت دوابُهم، وهلكت مراعيُهم، وأمسك المطرُ عنهم..”. هكذا كان حال الناس بمصر، وفي بلاد المشرق وقت “الطاعون” و”القحط” الذي أصابهم في سنة 695هـ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى