رأى

الحوار الفعّال من منظور ‫رابطة العالم الإسلامي‬

استمع

بقلم: د. المحجوب بن سعيد

خبير برامج الاتصال والحوار الحضاري

انطلقت الدعوة إلى الحوار من القرآن الكريم في آيات كثيرة تعكس أنماطا متعددة من الحوار بمختلف المستويات وفي شتى المجالات مثل الحوار الخالق مع خلقه ومع رسله، وحوار الأنبياء مع أقوامهم وحوار الأفراد فيما بينهم. قال تعالى: {وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا}، سورة الكهف، [الآية 34]. وفي سورة المجادلة ورد لفظ التحاور في قوله تعالى {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما، إن الله سميع بصير} [الآية 1].
إن تعدد البشر واختلافهم في الآراء والمعتقدات المعرفية جعلت من الحوار وسيلة من وسائل التقارب والتعارف وتبادل المعارف، لأنه كلما اتسعت مساحة المعرفة المتبادلة بين الشعوب والأمم، على مختلف المستويات، ضاقت مساحة الخلاف وانزوى الاختلاف وتراجع وفقد القدرة على التأثير السلبي الذي يلحق أفدح الأضرار بالمجتمعات الإنسانية .ولذلك ينطلق المنظور الإسلامي للحوار من غايات سامية تدعو إلى العدل والإنصاف والقبول بالاختلاف مع الآخر والتسامح معه انسجاما مع ضرورات الوئام البشري الإنساني التي تتطلبها الحياة واحتياجاتها الاجتماعية وتفرضها طبيعة العمران البشري والأخوة الإنسانية.
ومن خلال الوثائق المرجعية لرابطة العالم الإسلامي ، وتصريحات أمينها العام معالي الدكتور الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى ، فإن الحوار الفعال هو الأساس القوي للسلام وللتفاعل بين القيم الإنسانية المشتركة وللتعايش بين أتباع الأديان ،والخروج من دائرة الانغلاق الفكري والاحتقان الثقافي والصدام الحضاري. إنه منهج العقلاء وسبيل الحكماء ، وبفضله يتم تعزيز التعاون الدولي والانخراط الفعلي في الجهود الدولية الهادفة إلى نشر ثقافة العدل والسلام ، وترسيخ قيم التعايش والتسامح والحد من سوء الفهم والتفاهم من خلال التركيز على القواسم والمشتركات الفكرية والثقافية والدينية .
و في وثيقة مكة المكرمة التي اعتمدها أكثر من 1200عالم ومفكر من مختلف المذاهب والطوائف، المشاركون في المؤتمر الإسلامي الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة خلال الفترة من 27 إلى29 مايو 2019 حـول (قيم الوسطية والاعتدال في نصوص القرآن والسنة)، تم التأكيد على أن الحوار بين أتباع الأديان هو اختيار استراتيجي لأنه السبيل المؤدية إلى استقرار الإنسانية وترسيخ قواعد الأمن والسلم الدوليين، وتعزيز الوفاق العالمي لتوفير شروط التنمية الشاملة والمستدامة . كما دعت الوثيقة إلى تعزيز التنوع الديني والثقافي في المجتمعات الإنسانية من خلال إقامة شراكة حضارية ايجابية قوامها الحوار والتفاهم والتعاون والعدل والاحترام المتبادل لخدمة الإنسان وإسعاده.
لقد أصدرت رابطة العالم الإسلامي وثيقة مكة المكرمة في وقت مناسب جدا على المستوى الإقليمي والدولي . فالحكومات في الدول الإسلامية أصبحت تولي لموضوع الحوار والوسطية والاعتدال اهتماما بالغا ، كما وضعت جلها استراتيجيات وطنية تربوية وثقافية واعلامية واقتصادية وأمنية واستخباراتية لاستئصال جذور الإرهاب وحماية الشباب من الغلو والتطرف وحثه على التشبع بقيم المواطنة الصالحة والمساهمة في التنمية المجتمعية. وعلى المستوى الدولي ، ما زال العالم يواجه مشكل التطرف الديني الذي يتطلب اليوم حوارا فعالا وتعاونا متواصلا بين العقلاء والحكماء من أتباع الأديان لتعزيز ثقافة التعايش من أجل توطيد العلاقات السلمية بين الأمم والشعوب والعمل على نزع فتيل الصراعات والمواجهات الدينية ، وسد الطريق أمام المتطرفين الذين يستغلون الدين لقضاء مآرب سياسية واقتصادية وايديولوجية عنصرية ومتعصبة لا تمت للدين في نبله وسماحته بأية صلة.
وفي هذا السياق ، قام معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بجهود كبيرة في التعريف بالإسلام ورسالته العالمية والإنسانية السمحه في أوساط القرار السياسي والديني في أمريكا ، وأوربا، وروسيا ، وإفريقيا ، مما ساهم في خلخلة الصور النمطية السلبية عن القيادات الدينية المسلمة لدى الغربيين . وفي خطبه وتصريحاته الصحفية عبر العالم ، ظل الشيخ الدكتور محمد العيسى يدعو إلى تأسيس حوار فعال بين أتباع الأديان ، ويؤكد أن الأمر أضحى ضرورة قائمة وواجبا شرعيا ومطلبا حضاريا ، يتطلب ابتكار سبل جديدة واتخاذ مبادرات عملية لكي لا يكون هذا الحوار ترفا معرفيا واستهلاكا إعلاميا ، بل حوارا معززا للتعاون الدولي في إطارالنزعة الإنسانية الساعية إلى تطوير العلاقات الدولية من أجل تحقيق السلام العالمي . وبتوجيه من الشيخ الدكتور محمد العيسى ، شرعت في رابطة العالم الإسلامي في تطبيق رؤية متجددة تهدف إلى توجيه الوعي الإنساني نحو المزيد من التفاهم، وبناء مجتمعات بشرية متعايشة، تربطها قيم التعاون والتسامح، وتجمعها روابط التواصل الحضاري، التي من خلالها تتمكن الأسرة الإنسانية الواحدة من تجاوز عقبات أعداء التعايش والتواصل بين أتباع الحضارات والثقافات والأديان، عبر تعزيز ثقافة التواصل والسلام.
وفي الملتقيات والمنتديات التي عقدتها الرابطة في مصر ، وجنوب إفريقيا ، وبريطانيا ، والنمسا ، وفرنسا ، وسويسرا ، وإيطاليا ، والفاتيكان ، وكوسوفا ، وباكستان ، وسنغافورة ، وماليزيا ، وأندونيسيا ، واليابان ، وأمريكا ، أبرز الشيخ الدكتور محمد العيسى في كلماته ومحاضراته أن الرابطة جسرٌ عالميٌّ لتعزيز التواصل الإنساني بواسطة الحوار الفعال ، من أجل التسامح والتعايش والسلام. كما دعا إلى تعزيز مفهوم الأسرة الإنسانية الواحدة التي تقوم على المحبة والتعاون في بناء المجتمع الحضاري، والحرص على محاربة أي شكل من أشكال الإساءة إلى هذه الأسرة في وئامها وتقاربها وتعاونها وتحابها بمختلف أديانها وأعراقها وثقافاتها ودولها. كما شدد على مسؤولية قادة الأديان في تعزيز المفاهيم الحضارية والإنسانية والتحرك الفعلي والجاد لنشر قيم المحبة والسلام وتربية الأجيال على الحوار الفعال. كما ظل يؤكد للعقلاء ومحبي السلام عبر العالم على أن التصادم الروحي والثقافي سببه الرئيس غياب المنطق السليم ومهارات التواصل الحكيم، وأن الأديان تعرضت لتاريخ طويل من الاختطاف والانتحال، وأن التصادمُ الديني يكشف حقيقة بعض المنتسبين إليه لا حقيقة الدين، وأن الإسلام انفتح على الآخرين حتى انه أجاز الزواج من أهل الكتب السماوية، و أن الوقائع التاريخية والآراءِ الدينية والسياسية والاجتماعية السلبية لا تُعبّر عن حقيقة الدين.
تنطلق رابطة العالم الإسلامي في رؤيتها الجديدة من قناعة مفادها أن أتباع الأديان والثقافات أحوج ما يكونون إلى بناء حوار فعال متحرر من رواسب الماضي ، من أجل تعزيز تواصلهم الإنساني وتلاقيهم وتعاونهم في إطار المشتركات والمصالح .من هذا المنطلق أكد الشيخ الدكتور محمد العيسى في مناسبات عديدة أن تحقيق تلك المساعي ممكن بفضل الجهود الصادقة المنبثقة من حسن النوايا للتعريف بقيم التسامح التي تتمحور حول الحوار والتعايش والتواصل بين الأمم ، وليس الحروب والمواجهات والتعصب الفكري والتطرف الديني .

وفي البرنامج الديني المتميز ) بالتي هي أحسن ) الذي أعدته الرابطة وبثته قناة MBC طيلة شهر رمضان الماضي ، ظل ضيف حلقات هذا البرنامج فضيلة الشيخ الدكتور محمد العيسى يؤكد على ضرورة إعادة النظر في بعض المرجعيات الفكرية المنغلقة والمتتشددة والتي تولد سوء الظن بين أبناء الحضارات المختلفة ، تحت ذريعة الخوف من التفرد والتأثير الثقافي للآخر . كما أوضح بأسلوب شيق وعميق بأن ه من الضروري اليوم الإيمان بمبدأ المساواة بين كافة الحضارات المكونة للمجتمع الإنساني باعتبارها حضارة إنسانية واحدة ، يتحمل الجميع مسؤولية النهوض بها لضمان مستقبل البشر . كما شدد على أنه يتعين على اليوم التركيز على نقاط الإلتقاء مع الثقافات والحضارات الأخرى بدلا من التركيز على مواطن الخلاف .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى