إقتصاد

الفرصة الضائعة.. إصلاح الشرطة في مصر وتونس.. شيماء الصباغ!

استمع

Shorta2

كارنيغى – ياسر عبدالله

لم تظهر في مصر أو تونس قوات شرطة وأجهزة أمنية تخضع إلى مساءلة حقيقية أمام سلطات مدنية منتخبة ديمقراطياً، على الرغم من مرور أربع سنوات على الانتفاضتين الشعبيتين اللتين أجبرتا زعيمَي البلدَين على التنحّي عن السلطة. إذ لاتزال وزارتا الداخلية في البلدين صناديق سوداء تكتنفها عمليات صنع قرار مبهمة، وتحكمهما شبكات من الضباط الذين قاوموا الإصلاح الهادف والشفافية المالية والرقابة السياسية. وإلى أن تصلح حكومتا البلدين القطاعين الأمنيين فيهما، بدلاً من مهادنتهما، ستزداد ثقافة حصانة الشرطة من المساءلة، وسيظلّ التحوّل الديمقراطي مستحيلاً في مصر وعرضة إلى الخطر في تونس.

ضياع فرصة الإصلاح

  • وفّرت الانتفاضتان في مصر وتونس فرصتين مهمتين لبدء عملية إصلاح قطاع الأمن: في أعقاب الانتفاضتين مباشرة، عندما كان التأييد الشعبي على أوسعه وكان القطاع أضعف من أن يقاوم، وبعد تشكيل الحكومات الانتقالية الجديدة في أعقاب الانتخابات العامة، والتي منحت القادة السياسيين في البلدين الشرعية والتفويض اللازمين لوضع الإصلاح في مقدمة الاهتمامات.
     
  • لم يتم تعزيز الإجراءات الأوّلية بقدرٍ كافٍ من وحدة الهدف، وبالبناء الفعّال للائتلافات السياسية والتوافق الاجتماعي أو بالسياسات الإصلاحية المتماسكة.
     
  • في خضمّ حالة الاستقطاب السياسي الحادّ، واجهت الأحزاب الإسلامية التي دخلت الحكومة بفضل الانتخابات اتهامات من جانب خصومها العلمانيين باستغلال أجندة الإصلاح للسيطرة على القطاعات الأمنية و”أسلمتها”.
     
  • أصبحت مهادنة القطاع الأمني وتحييده سياسياً شعاراً للحكومات المؤقّتة المتعاقبة.
     
  • سمح التأخير في السعي إلى تحقيق إصلاح جدّي لقطاع الأمن بأن يتحصّن، وبأن يستغلّ التهديد المتزايد للعنف السياسي والإرهاب، لكي يقاوم  الجهود الرامية إلى جعله شفافاً وخاضعاً إلى المساءلة.

دروس من مصر وتونس

الحياد ضرورة أساسية. إرث عدم الثقة والاستقطاب السياسي في البلدان التي تخوض مرحلة انتقالية، يجعل من الضروري أن تتجنّب القوى السياسية الفاعلة أن تتنافس للسيطرة على قطاع الأمن. ولذا ينبغي تعيين وزراء داخلية محايدين وتمكينهم.

إصلاح القطاع الأمني يجب أن يتم من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى. يجب أن تتم عمليات التصميم المؤسّسي وصنع السياسات وضمان الامتثال من أعلى إلى أسفل، غير أنه ينبغي إشراك الأحزاب السياسية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام لبناء التوافق العريض في الآراء، وتوفير الشفافية، وتوليد الضغط المكمّل على قطاع الأمن كي يستجيب ويمتثل.

التعامل والحوار مع قطاع الأمن ضرورة من أجل الإصلاح. ينبغي التشارك مع قطاع الأمن في تحديد الأولويات وتصميم العمليات لأن الهياكل الانتقالية هشّة، والقوى السياسية الجديدة تفتقر  إلى الخبرة المناسبة في مجال رسم السياسات والتشريعات، وإلى الخبرة الفنية.

هناك حاجة إلى وجود معايير ورقابة. يجب أن يرتبط توفير مصلحة حقيقية لقطاع الأمن، من خلال تحسين قدراته المهنية والأجور وشروط الخدمة وسياسات التعيين والترقية الخاصة به، بتحسين أدائه وامتثاله إلى الرقابة القانونية والسياسية والمالية في المقابل.

يجب على الحكومات ألا تتنازل بشأن القضايا المفصلية. المساومة أمر لايمكن تجنّبه، غير أنه يتعيّن على الحكومات أن تتمسّك بموقفها وألّا تخضع إلى الضغوط عندما يتعلق الأمر بوضع حدّ لحصانة قطاع الأمن من المساءلة، ووضع السياسات والميزانيات، وإصدار التعيينات القيادية العليا أو المصادقة عليها.

فرصتان سانحتان

نتج الربيع العربي عن مظالم سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة. لكن ماميّزه هو صبّ جام الغضب الشعبي على قوى الشرطة، التي اعتبرها الكثيرون مدانة بارتكاب انتهاكات منهجيّة لحقوق الإنسان وبالفساد المستشري في صفوفها. ففي مصر وتونس، هوجِم آلاف مراكز ومركبات الشرطة، وانهارت معنويات قوات الشرطة وتماسكها وسط حالة من الاشمئزاز الجماهيري. غير أن إضعاف الدول “الأمنوقراطية” التي كان شيّدها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك والرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي على مدى العقود الفائتة لم يؤدِّ إلى الآن إلى ظهور قطاع أمني مسؤول حقاً أمام سلطات مدنية منتخبة ديمقراطياً في أي من البلدين، بعد مرور أربع سنوات كاملة.

ينطوي إصلاح القطاع الأمني، والذي يشمل قوى الشرطة والقوات شبه العسكرية (الدرك) وأجهزة الأمن الداخلي المختلفة الخاضعة لوزارة الداخلية، مهام مترابطة عدّة. ويتمثّل الهدف الشامل للإصلاح في تحسين قدرات القطاع الأمني وكفاءته المهنية لأداء واجباته امتثالاً للحوكمة الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. وبما أن مصر وتونس خرجتا من فترة طويلة من الحكم السلطوي القمعي، فقد كانت العدالة الانتقالية أيضاً أحد المتطلبات المهمة للتحول الديمقراطي، على الأقلّ بالنسبة إلى ضحايا العنف الذي مارسته الشرطة خلال الانتفاضات التي تسبّبت في إطاحة مبارك وبن علي وأزلامهما وشركائهما الأقربين.

لايمكن إتمام عملية التحوّل الديمقراطي من دون إصلاح القطاعات الأمنية المسيئة وتحويل علاقتهما بالسلطة. بيد أن احتمالات عدم تحقيق إصلاح جذري وشامل للقطاع الأمني في مصر وتونس كانت كبيرة منذ البداية. وحتى لو تتوّجت عملية الإصلاح بالنجاح، فلن يكون ذلك سوى بعد عملية تدريجية وطويلة الأمد.

بشّر الربيع العربي بفرصتَين مهمتَين للشروع في عملية إصلاح هادفة وبنّاءة للقطاع الأمني في كل من مصر وتونس. حانت الفرصة الأولى عقب الانتفاضتين مباشرة، عندما كان الدعم الشعبي في أكثر حالاته تعبئة، الأمر الذي عوّض عن هشاشة الحكومات المؤقتة الأولى وضعف شرعيتها. وحانت الفرصة الثانية مع انتخاب المجلسين التمثيليين والحكومتين الانتقاليتين الجديدتين في مصر وتونس في العامين 2011-2012، والتي كانت تحظى بشرعية أقوى من سابقاتها وبدافع للاستجابة للآمال الشعبية.

كانت الفرصة حقيقية تماماً. وكان دعم إجراء تغييرات جوهرية في كيفية عمل القطاع الأمني واسعاً بين المواطنين عامة. أما القطاع الأمني نفسه، فقد كانت معنوياته محطّمة بسبب انهيار قدرته على ترهيب المواطنين، ومرتبكاً بسبب الخسارة المفاجئة للرؤساء مدى الحياة الذين عزّزوا تفوّقه السياسي وميزانياته، فبات أضعف من أن يقاوم الإصلاح. علاوة على ذلك، تشجّع الضباط من ذوي التوجهات الإصلاحية للدعوة علناً إلى أخلاقيات جديدة على أساس الاحتراف والمساءلة والخدمة العامة. وعلى نحو مهم، سعت القوات المسلحة، والتي كانت ممتعضة منذ فترة طويلة من صعود القطاع الأمني، إلى إعادة تفوقها في حالة مصر وتثبيت توازنها في حالة تونس، بعد سقوط مبارك وبن علي، وهو الأمر الذي كانت لعبت فيه دوراً رئيساً، فيما سعت أيضاً إلى إقامة علاقات مع الأطراف السياسية الفاعلة الجديدة التي أصبحت تتنافس الآن على مركز الصدارة.

لقد أعطت الانتفاضات دفعة أوّلية قوية للشروع في الإصلاح في جميع المجالات، غير أنه لم يتم تعزيزها بقدر كافٍ من وحدة الهدف، أو البناء الفعّال للتحالفات السياسية أو التوافقات الاجتماعية أو صوغ السياسات المتجانسة من أجل التغيير. إن غياب ذلك الجهد الهادف والدؤوب ضمن أن تفوت فرصة الإصلاح.

إن العجز عن حل أو تخفيف الصراعات السياسية والإيديولوجية المريرة التي عرقلت مسار الانتقال في كل من مصر وتونس بعد العام 2011 جعل من الصعب بمكان إحياء إنفاذ القانون بفعالية أو تحسين الكفاءة المهنية والقدرات العملياتية لقطاع الأمن، ناهيك عن إرغام ذلك القطاع على احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان والحوكمة. وبدلاً عن ذلك، فإن دولة “بوليسية” تظهر في مصر الآن فيما تعود المراقبة السياسية في تونس. ماكان ممكناً من الناحية السياسية في الأيام الأولى للانتفاضات أصبح أكثر صعوبة الآن، إن لم يكن خارج نطاق البحث تماماً.

في تونس، التي ينظر إليها على نطاق واسع باعتبارها قصة نجاح نسبية للانتقال الديمقراطي، لاتزال وزارة الداخلية هي “الصندوق الأسود” الذي يواصل التهرّب من الرقابة المدنية الفعّالة، وأصبحت نقابات الشرطة جماعة ضغط نشطة تعارض جهود الحكومة لتأكيد سلطتها. من الناحية النظرية، يمكن أن يؤدّي تشكيل حكومة ائتلافية تضمّ حزب “نداء تونس” العلماني وحزب النهضة الإسلامي في شباط/فبراير 2015 إلى بذل جهود متضافرة لفرض سيطرة ذات مغزى على القطاع الأمني. ولكن في واقع الأمر من المرجّح أن يصبح القطاع الأمني موضع نزاع بين الأحزاب الرئيسة ويستغلّ تنافسها لحماية استقلاليته ومصالحه الخاصة.

الديناميكيات السياسية للإصلاح: تقويض الهدف في مصر وتونس

شكّل إصلاح القطاع الأمني  تحدياً رئيساً في مصر وتونس وليبيا واليمن، البلدان الأربعة التي مرّت بفترة انتقالية في أعقاب الربيع العربي، بيد أن عوامل عدّة وضعت مصر وتونس في فئة منفصلة. وعلى النقيض من نظيريهما في ليبيا واليمن، كانت هناك حدود مؤسّسية وتسلسل قيادي واضح لقطاعي الأمن في مصر وتونس، لم تعطّله الانتفاضات، مامكّنهما من تجنّب الانهيار التام ومن ثم استعادة تماسكهما الداخلي بسرعة نسبياً. وعلى الرغم من أن القطاع الأمني في البلدين سار في البداية على غير هدى بفعل فقدان شبكات المحسوبية غير الرسمية التي كانت تربطه سابقاً بالحزبيْن الحاكميْن – الحزب الوطني الديمقراطي في مصر والتجمّع الدستوري الديمقراطي في تونس – فقد منحه هذا الوضع في نهاية المطاف مزيداً من الاستقلالية عن السلطات الجديدة.

وبالقدر نفسه من الأهمية، لم تتمحور الصراعات السياسية بعد الانتفاضة على القطاع الأمني بالطريقة المدمّرة في النهاية كما فعلت في ليبيا واليمن. كما أنها لم تشكّك في طبيعة ووجود الدولة المركزية، التي حافظت على وظائفها البيروقراطية الاعتيادية خلال الفترة الانتقالية، والتي استمر المجتمع يتطلّع إليها من أجل إنفاذ القانون. علاوة على ذلك، في مصر وتونس جاءت المجالس التشريعية والتأسيسية الجديدة والرؤساء المؤقّتون غير الملّوثين بالتبعية للأنظمة السابقة إلى الحكم من خلال انتخابات عامة تنافسية، مامنحهم شرعية حقيقية.

كانت الحكومات الانتقالية في مرحلة مابعد الثورة في مصر وتونس في حاجة إلى دعم شرعيتها الهشّة من خلال استعادة القانون والنظام العام، وهو ماكان يعني تأكيد سيطرتها الفعلية على القطاع الأمني. وكان ينبغي أن تسهّل العوامل التي ميّزت مصر وتونس عن بقية بلدان الربيع العربي عليهما إطلاق عمليات إصلاح من القمة إلى القاعدة في المجالات الرئيسة. 

كان يمكن ترجمة الأهداف العريضة لإصلاح قطاع الأمن في البلدين – أي تطوير الكفاءات والقدرات المهنية، علاوة على ضمان تحقيق العدالة الانتقالية – إلى إجراءات عملية ملموسة. وشملت هذه مراجعة القوانين المنظِّمة للشرطة وتشكيل الفرق الرسمية المختصة بإعادة الهيكلة في داخل وزارات الداخلية (كما فعل اليمن). وكان يمكن تحسين التدريب والقدرات المختبرية، إضافةً إلى الرواتب وظروف الخدمة، كجزء من حزمة إجراءات تشمل أيضاً وضع المعايير لقياس أداء الشرطة وامتثالها للقانون وحقوق الإنسان. كما شملت الإجراءات العملية الممكنة كذلك مراجعة سياسات الدخول إلى الخدمة، والتحقيق بالأفراد المتهمين بارتكاب الخروقات والمخالفات السابقة، وتعديل الدساتير لتأكيد الصفة المدنية للشرطة كجهاز مناط بالخدمة العامة تحت إشراف الهيئات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وكان لابدّ من ضمان الشفافية الكاملة، وبالتالي كان ينبغي أن تسير العملية الإصلاحية برمّتها تحت إشراف لجان تتكون من وزراء الداخلية، ورؤساء فرق إعادة هيكلة قطاع الأمن، والقضاء والنيابة العامة، وممثلي الأحزاب المنضوية في الحكومة والمجتمع المدني. 

تم البدء ببعض هذه الإجراءات، على الأقل، مما يدل على أنها كانت ممكنة.ولكن القليل منها وحسب تم إنجازه، بينما الكثير منها لم يبدأ العمل بها بتاتاً.

هذا، وعلى الرغم من إضعافه، فإن الإرث السلطوي لقطاع الأمن واستقلاليته المؤسّسية، وشعوره بالضيم والاستياء في أعقاب الربيع العربي، جعل منه خصماً يحتمل أن يكون خطراً. في المقابل، كانت الحكومات الجديدة تفتقر إلى الخبرة في الحكم أو إدارة التغيير، ولاسيّما في القطاع الأمني. 

ونتيجة لذلك، أصبحت مهادنة القطاع الأمني وضمان حياده السياسي شعار ومسعى الحكومات الانتقالية المتعاقبة، بدلاً من إصلاحه. ولذا فقد سمح التأخير في متابعة عملية الإصلاح الجدّي والتدابير الفاترة التي تم اتّخاذها للقطاع الأمني بالتحصّن، فضاعت الفرصة.

إن الطريقة التي تطورت من خلالها الديناميكيات السياسية الانتقالية قوَّضت الفرصة في مايتعلَّق بإصلاح قطاع الأمن.

الفترة الانتقالية الأولى: كانت الحكومات المؤقتة التي تشكّلت في أعقاب الانتفاضات مباشرة تتكوّن في الغالب من مسؤولين من عهدَي مبارك وبن علي. كانت تلك الحكومات هيئات غير منتخبة مهمتها تسلُّم وتسليم السلطة وتفتقر إلى التفويض الشعبي أو الشرعية السياسية اللازمة للبدء في إصلاحات هيكلية كبرى في أي قطاع، بما في ذلك الأمن. وقد كانت محافِظة بطبيعتها، تفضِّل الاستقرار والاستمرارية على التغيير الثوري المزعزِع للاستقرار. ركّزت الإصلاحات الأولية التي قامت بها بالتالي بشكل حصري تقريباً على إجراء تغييرات تجميلية إلى حدّ كبير تمثّلت في تطهير أو إعادة تكليف أعداد صغيرة نسبياً من الضباط وإعادة تسمية أجهزة الأمن السياسي.

الاستقطاب السياسي: حظيت الحكومات الانتقالية اللاحقة بقدر أكبر من الشرعية بحكم أنها كانت منتخبة، بيد أنها وجدت صعوبة في مواصلة إصلاح القطاع الأمني وسط اشتداد حالة الاستقطاب السياسي. كان ذلك ينطبق بشكل خاص على جماعة الإخوان المسلمين في مصر ونظيرتها الإسلامية في تونس، حركة “النهضة”، واللتان كانتا تمثّلان في السابق الأهداف الرئيسة للدول “الأمنوقراطية” في عهدَي مبارك وبن علي، وأصبحتا الآن الأحزاب الرئيسة في الحكومة. وقد أثارت محاولات الجماعتين الرامية إلى استبدال كبار المسؤولين في وزارة الداخلية أو غيرها من المؤسّسات الحكومية – وهو الأمر المعتاد لأي إدارة قادمة في بيئة ديمقراطية – اتهامات من قِبل منافسيهما العلمانيين – الذين تحالف أنصار النظام القديم معهم – والنشطاء الثوريين بالسعي إلى “الاستحواذ” على قطاع الأمن و”أَسْلَمَته”. وعندما ردّت حركتا الإخوان المسلمين والنهضة على إحجام أجهزة الشرطة عن استئناف مهامها بصورة كاملة، عبر اقتراح وسائل بديلة أو رديفة لمعالجة تزايد حالات الخروج على القانون والجريمة، أدّى ذلك إلى اتهامات لاتخلو من التهويل بأنهما تسعيان إلى بناء هياكل أمنية “موازية” و”شرطة آداب” إسلامية (مطوِّعين).

الغثّ مقابل السمين: أسفر ميل القوى السياسية الانتقالية نحو النظر إلى إصلاح القطاع الأمني ضمن تصنيف علماني – إسلامي عن كبح النقاش المثير للجدل ولكن بالغ الأهمية بشأن مدى وسرعة القيام بالعملية الإصلاحية. بالنسبة إلى البعض، كان “استمرار الثورة”، على حدّ قولهم، يتطلب تطهير جميع “الفلول” (أي مسؤولي النظام السابق). غير أن آخرين كثراً شدّدوا على ضرورة الإبقاء على العاملين الأمنيين المدرّبين مهنياً وعلى الهياكل القائمة بغية الحفاظ على المهارات والخبرات اللازمة لإنفاذ القانون بصورة فعاّلة. وشمل ذلك الأشخاص الذين سعوا حقاً إلى الحوكمة الديمقراطية لقطاع الأمن، فضلاً عن الذين استغلّوا الخلاف لعرقلة حصول أي تغيير حقيقي. كانت الحكومات الانتقالية في مصر وتونس محقّة في عدم خسارة “السمين” في القطاع الأمني، ولكنها فشلت في نهاية المطاف في التخلّص من “الغثّ” في النظام السابق، إذا جاز التعبير.

مكافحة الإرهاب وإحياء ثقافة الحصانة: أسفر الفشل في تصميم وإطلاق أجندات الإصلاح التي تحتوي على بعض أو جميع الإجراءات العملية المذكورة أعلاه عن تبدُّد التقبُّل المحتمَل للتغيير لدى عناصر قطاع الأمن، فازداد امتعاضهم وانكفأوا إلى نظرة عدائية تجاه المواطنين مجدّداً. كما حلَّ صعود أجندات مكافحة الإرهاب ردّاً على خطر العنف الجهادي الداخلي والعابر للحدود محلّ أي أمل في إحياء أجندة إصلاح قطاع الأمن. وعندما أعاد القطاع الأمني تنظيم صفوفه، استخدم الحجّة المشروعة القائلة بضرورة عدم تسييسه، لكي يقاوم أي محاولة من جانب الحكومة لجعله شفافاً وخاضعاً للمساءلة. فسمح ذلك لثقافة الحصانة، أي الإفلات من المساءلة القانونية، داخل القطاع الأمني بإعادة تأكيد نفسها.

القطاع الأمني في مصر: من الانهيار إلى الانتقام

تجلّت هذه الاتجاهات والديناميكيات واضحة بصورة حيّة في مصر، والتي تقدم النموذج الأكثر شناعة حول تبعات عدم إجراء إصلاح بعيد الأثر لقطاع الأمن. فقد وصف أحد الباحثين “مهمة صنع دولة تعمل لصالح شعبها” بأنها “التحدّي الأساسي الذي طرحته الثورة المصرية”، بيد أن هذه المهمة كانت تتطلّب بصورة مماثلة تحقيق تحوّل موازٍ لقطاع الأمن الضخم التابع لقيادة وزارة الداخلية.1  إذ قُدّر عدد منتسبي القطاع الأمني بمليون شخص في أقل تقدير عندما اندلعت انتفاضة العام 2011، بينما تشير التقديرات الأكثر شيوعاً إلى أنه كان يُعِدّ مابين 1.5 و1.7 مليون شخص، بما في ذلك مايصل إلى 850 ألفاً من رجال الشرطة وموظفي وزارة الداخلية، و30-100 ألف من عملاء جهاز مباحث أمن الدولة، ومايصل إلى 450 ألف مجند في “قوات الأمن المركزي” شبه العسكرية، و300-400 ألف من المخبرين الذين يحصلون على رواتب.2 

بدلاً من إصلاح قطاع الأمن، اتخذت مصر منحى إعادة تشكيل الدولة البوليسية التي كانت قائمة في عهد مبارك. فقد ساهم الفشل في السعي إلى الإصلاح الشامل مساهمة مباشرة في إطاحة الرئيس آنذاك محمد مرسي في تموز/يوليو 2013، أول رئيس مدني يتولّى المنصب من خلال انتخابات تنافسية حقيقية، وإعادة تأكيد السلطوية الكاملة.

ومنذ ذلك الحين، تقوم دولة بوليسية أشد قسوة في قمعها وأكثر هيمنة من الناحية السياسية بالمقارنة مع عهد مبارك بإعادة بناء نفسها تحت سيادة الجيش. وتبشّر القوانين الصارمة على نحو متزايد، والخطاب القومي الذي يتّسم بالغلو، وتوسيع دور القطاع الأمني والقوات المسلحة في جميع جوانب الحياة المدنية، بمجيء نظام سياسي أكثر سلطوية يقوم على قبول مجتمعي أوسع بالممارسات القمعية التي يقوم بها الجهاز القسري للدولة.

الفترة الانتقالية الأولى في مصر

لم يكن هذا التحوّل حتميّاً. فقد أفضت انتفاضة العام 2011 إلى طرح مقترحات ملموسة لإصلاح قطاع الأمن. كان من أبرز تلك المقترحات “المبادرة الوطنية لإعادة بناء الشرطة – شرطة لشعب مصر”، وهي منبر للمجتمع المدني ضم ضباطاً متقاعدين ومسرَّحين قسراً عرض إطاراً إصلاحياً عريضاً. وشكّل ضباط آخرون مؤيدون للإصلاح “الائتلاف العام لضباط الشرطة”، و”الائتلاف العام لأُمناء وأفراد الشرطة”، و”ضباط لكن شرفاء”، وتجمعات أخرى مشابِهة غير مصرّح بها رسمياً. وكان من بين أولويات هذه الائتلافات، بحسب أحد الضباط، “تقليص ساعات العمل والعمل البيروقراطي والمهام الإدارية لتشجيع الشرطة على توفير الأمن الحقيقي، فضلاً عن إجراء إصلاحات في سلّم الرواتب وتنفيذ برامج تدريبية للحدّ من استخدام العنف”.3 

ومع ذلك، فقد أدّى العجز عن بناء برامج مشتركة فعالة مع جمعيات الشرطة الإصلاحية إلى إضعاف مبادرات المجتمع المدني. لم يراعِ الناشطون الذين كانوا ينظرون إلى الشرطة منذ فترة طويلة باعتبارها عدواً ثقافتها المؤسّسية، أو أنهم سعوا إلى إدخال تغييرات جذرية عليها من دون بناء شراكات حقيقية. ولا يمكن للمبادرات القاعدية أن تحرز تقدّماً كافياً من دون دعم سياسي قوي ومستمر من القمة إلى القاعدة.

غير أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي تولّى سلطات مبارك في 11 شباط/فبراير، كان متردّداً في مواجهة المهمة الضخمة المتمثّلة في إعادة هيكلة وزارة الداخلية أو أجهزتها المتضخّمة. علاوة على ذلك، فقد اتّسم نهج المجلس العسكري بالمنظور المحافِظ في الأساس وعدم الثقة غريزيّاً بالتقلّبات. بالتالي، تجنّب المجلس العسكري بصورة متعمّدة القيام بعملية إعادة هيكلة موضوعية للقطاع الأمني، ناهيك عن إصلاح فعلي.

وبدلاً من ذلك، سعى المجلس العسكري إلى كسب وزارة الداخلية كحليف واستعادة منتسبي قطاع الأمن. فقام بمبادرات تجاه الرأي العام والناشطين الثوريين المتعطشين إلى الإصلاح، على شكل إقالته 670 من كبار ضباط الأمن الداخلي- معظمهم في جهاز مباحث أمن الدولة سيئ السمعة – وغيّر اسم الجهاز ليصبح قطاع الأمن الوطني. غير أن الإجراء التالي الذي قام به المجلس تمثّل في منح الشرطة زيادة في الأجور بنسبة 300 في المئة في ميزانية العام 2012، من دون أن يربط ذلك بمعايير جديدة للأداء أو بتوقعات بشأن السلوك. وفي موازاة ذلك، أبطلت وزارة الداخلية مفعول موجة من الاحتجاجات بين أمناء الشرطة، الذين يلعبون دوراً حاسماً في إنفاذ القانون الأساسي في مصر، من خلال منحهم إمكانية الترقية إلى رتبة ضابط صف فخرية جديدة هي “مندوبين”.

وبالمثل، عندما أصدرت وزارة الداخلية أول مدوّنة سلوك للشرطة في تشرين الأول/أكتوبر 2011، افتقرت الوثيقة إلى واجبات وعقوبات واضحة. فبدلاً من حماية المواطنين من سوء المعاملة، ضمَنَت الوثيقة فعليّاً حصانة الشرطة، فيما استخدمت مصطلحات تعيد تأكيد الطابع العسكري للشرطة. ورفضت وزارة الداخلية تسجيل أي من جمعيات الشرطة التي ظهرت أو الاعتراف بها. بدلاً من ذلك، سعت الوزارة إلى شرذمة تلك الجمعيات أو احتوائها: فاتخذت إجراءات تأديبية بحق مجموعة “ضباط ولكن شرفاء”، في حين قبلت التعامل بصورة غير رسمية مع “الائتلاف العام لضباط الشرطة” و”الائتلاف العام لأمناء وأفراد الشرطة”، اللذين سُمح لهما بعد العام 2013 بالتسجيل كنوادٍ وليس كنقابات.4 

جماعة الإخوان المسلمين تتراجع عن موقفها

أُعيد التأكيد على أهمية وجود قيادة سياسية – أو عدم وجودها – في أعقاب انتخاب زعيم جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي رئيساً للجمهورية في حزيران/يونيو 2012. ونظراً إلى تولّيه المنصب بفضل انتخابات رئاسية حرة وتنافسية حقيقية هي الأولى في مصر منذ تأسيس الجمهورية في العام 1952، فكان يتمتع بتفويض شعبي مقنع للمباشرة في الإصلاح، تقابله توقعات كبيرة كان يترتب عليه تحقيقها. كانت الفرصة متاحة للإصلاح.

ففي وقت سابق من ذلك العام، وضع عمرو درّاج، وهو مسؤول كبير في جماعة الإخوان المسلمين، إصلاح قطاع الأمن على رأس قائمة أولويات حزب الحرية والعدالة، الذراع البرلمانية لجماعة الإخوان المسلمين، الذي كان قد فاز بما يقرب من نصف المقاعد في مجلس الشعب. قال درّاج إن إصلاح القطاع الأمني “ربما يكون أهم ملفّ نريد أن نعمل عليه، لأنه هو مفتاح الاستقرار وذلك هو أساس أي تنمية اقتصادية أو إصلاحات إضافية”.5 

كان لهذا المنظور صدى لدى دعاة المجتمع المدني الذين جادلوا بأن “إصلاح القطاع الأمني هو الأولوية رقم واحد، لأنه يشكّل العمود الفقري للجهاز السلطوي المسيء. وإذا مابقي هذا القطاع على حاله فعليكم أن تنسوا الانتخابات والمجتمع المدني والصحافة الحرة. وإذا مابقي كما هو، فهو الجهاز الوحيد الذي يمكنه أن يطيح تقدم الثورة”.6  علاوة على ذلك، أيّد حزب الحرية والعدالة قانون “العزل السياسي” الذي وافق عليه المجلس العسكري في نيسان/أبريل 2012، والذي منع مبارك ومسؤولين كباراً وقادة الحزب الوطني الديمقراطي خلال العقد الأخير من حكمه من الترشّح للمناصب العامة أو ممارسة حقوق سياسية معيّنة.

وعلى خلفية شعورها بأنها تحظى بالدعم، اقترحت منظمات غير حكومية عدة معنيّة بحقوق الإنسان وناشطون “مشروع قانون بشأن إعادة هيكلة وتطهير جهاز الشرطة” على لجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان في أيار/مايو 2012. ولكن عندما عدّل البرلمان القانون رقم 109 (للعام 1971) بشأن تنظيم هيئة الشرطة في حزيران/يونيو، جاءت التعديلات مقصِّرة عن أي أجندة إصلاحية. أنهى القانون المعدّل وضع الرئيس الاسمي باعتباره رئيس المجلس الأعلى للشرطة، الذي يعاون وزير الداخلية في وضع السياسات والتخطيط وشؤون الأفراد، لكنه لم يفرض رقابة برلمانية أو رقابة مدنية أخرى عليه. وقد نقل السلطة القضائية على الشرطة من المحاكم العسكرية التي يديرها الجيش إلى مجلس تأديبي في وزارة الداخلية، لكنه لم ينشئ آليات خاصة بالشكاوى أو الحقوق الأساسية الأخرى لأفراد قطاع الأمن. أما التغييرات الباقية فقد تعلَّقت بتحسين سلّم الرواتب والمعاشات التقاعدية للعاملين في القطاع. كما حال الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا في 14 حزيران/يونيو، والقاضي بحلّ مجلس الشعب، دون إجراء أي مناقشة برلمانية أخرى بشأن القانون المذكور.

وعلى المنوال نفسه، منع مرسي، الذي أدّى اليمين الدستورية في 30 حزيران/يونيو، الحديث عن إصلاح القطاع الأمني. فقد أحالت وزارة الداخلية 454 من كبار الضباط إلى التقاعد في تموز/ يوليو، غير أن حكومة هشام قنديل، الذي عُيّن رئيساً للوزراء في ذلك الشهر، لم تأمر حتى بإجراء مراجعة للقطاع الأمني، ناهيك عن التخطيط للقيام بإصلاح شامل له. وفي تشرين الأول/أكتوبر اقترحت وزارة العدل مشروع قانون يفرض عقوبات أشدّ على استخدام التعذيب والانتهاكات الأخرى من جانب الشرطة، ولكن كما هي الحال مع كل المحاولات الأخرى التي جرت منذ العام 2011 لجعل القانون الجنائي متوافقاً مع المعايير الدولية، لم يصدر هذا القانون عن الهيئات التي كانت تملك السلطة اللازمة للقيام بذلك في غياب البرلمان: رئاسة الجمهورية أو مجلس الوزراء أو مجلس الشورى المنتخَب. وعندما قدّمت لجنة الصياغة التي تهيمن عليها جماعة الإخوان دستوراً جديداً للمصادقة عليه في استفتاء عام في كانون الأول/ديسمبر، فإنه لم يتضمّن مايغيّر سلطات وصلاحيات قطاع الأمن بصورة جوهرية، ناهيك عن إصلاحه.

التزام الحذر: بين المهادنة والاستحواذ الحزبي

كشف الإهمال الواضح لإصلاح القطاع الأمني من جانب إدارة مرسي عن مفارقة. فمن ناحية، ادّعى الناشطون الثوريون وجماعات حقوق الإنسان، الذين كثيراً ما اتّهموا جماعة الإخوان المسلمين منذ العام 2011 بإبرام صفقة سرّية مع المجلس العسكري للحفاظ على امتيازاته ومصالحه العسكرية في مقابل تسليم السلطة بصورة سلمية، بأنه تم التوصّل إلى تفاهم مماثل مع وزارة الداخلية أيضاً.7  فاعتقدوا أن قطاع الأمن كان قد حوّل ولاءه من مبارك إلى سادتها السياسيين الجدد. ولاريب أن تصريحات مرسي التي تمجّد الشرطة وتعارض عمليات “التطهير”، وكذلك ادّعاؤه أن الشرطة “كانت في قلب [انتفاضة] 25 يناير 2011″، وهو ما أزعج النشطاء أكثر من سواه، أضفت صدقيّة على هذه الآراء.8 

ومامن شكّ في أن تسوية مؤقّتة دخلت حيّز التنفيذ بمجرّد تولّي مرسي منصبه، تتيح له التفاوض حول المناصب الوزارية الرئيسة مع المؤسّسة العسكرية والأمنية وإنشاء لجنة لتقصّي الحقائق في قتل المتظاهرين من جانب أجهزة الدولة في 2011-2012. 9  وقد خلصت اللجنة في آذار/مارس 2013 إلى أن الشرطة هي المسؤولة عن قتل مايقرب من 900 متظاهر، وأن القادة أذِنوا باستخدام القوة القاتلة بمعرفة مبارك. لكن إدارة مرسي وضعت التقرير جانباً بعد أن قضت محكمة يرأسها قاضٍ من عهد مبارك ببراءة ستة من كبار القادة من التّهم الموجهة إليهم.10  والواقع أنه عندما قدمت لجنة تقصي الحقائق تقريرها النهائي إلى مرسي في كانون الأول/ديسمبر، فقد أهمله وأحجم عن نشره. غير أن تلك كانت آخر مبادرة إصلاح أمني كبيرة تقدِم عليها إدارته.

ومن ناحية أخرى، كلما أقرّت إدارة مرسي تعيينات جديدة في وزارة الداخلية، كانت الأطراف العلمانية والليبرالية في المعارضة المصرية – لا الناشطون الثوريون وحدهم – تتّهمها بأنها تسعى إلى “الأخونة” عبر اختراق أجهزة الدولة وتعيين أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أو المتعاطفين معها. ولكن في حين انطوى اتهام مرسي بالسعي إلى”أخونة” السلطة القضائية من عهد مبارك على قدر من الحقيقة، وهي التي أصدرت سلسلة من القرارات المعادية بما في ذلك حلّ البرلمان المنتخب مؤخراً، فإن القطاع الأمني لم يتأثّر بسياسة مشابهة.

على العكس تماماً، تركت إدارة مرسي بصورة متعمّدة وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية ذات الصلة في أيدي الموالين لعهد مبارك، وهو الخيار الذي قوبل بانتقادات من جانب النشطاء الثوريين. وقع اختيار إدارة مرسي الأول لمنصب وزير للداخلية على اللواء أحمد جمال الدين، الذي يعتبره البعض أحد الأعضاء المتشدّدين في الجناح المناهض للإصلاح في الوزارة. وفي تشرين الأول/أكتوبر، عيّن مرسي ضابطاً كان مسؤولاً في السابق عن مراقبة منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام، وعن “مواجهة” جماعة الإخوان المسلمين، مديراً جديداً لجهاز الأمن القومي.11 

ومن المفارقات أن البعض اتّهم اللواء محمد إبراهيم، الذي أصبح وزيراً للداخلية في كانون الثاني/يناير 2013، بالعمل على “أسلمة” الوزارة.12  ففي عهده، على سبيل المثال، تم السماح لرجال الشرطة الملتزمين دينياً، بعد صراع طويل، بإطلاق لحاهم بما يخالف النظم الداخلية. غير أنه قُدّر لإبراهيم، في الواقع، أن يلعب دوراً رئيساً في إقصاء مرسي من السلطة بعد سبعة أشهر، وفي قيادة الحملة الاستثنائية بقساوتها على جماعة الإخوان المسلمين التي أعقبت ذلك.

الأمن الموازي

أثبتت سياسة المهادنة فشلها خلال العام الذي أمضاه مرسي في منصب الرئاسة. لابل إن بعض المعارضين العلمانيين لجماعة الإخوان المسلمين أقرّوا بأن “مرسي يتعرّض إلى المقاومة داخل وزارة الداخلية وجهاز الدولة”.13  وقد طرح ذلك مشكلة كبيرة، لأن قطاع الأمن استمر في التنصّل من مسؤوليته عن القانون والنظام العام، حتى في ظل ارتفاع معدّلات الجريمة. كان على الحكومة أن تفعل شيئاً لقلب الوضع.

في النصف الأول من العام 2012، ومن ثم خلال فترة حكم مرسي، استنسخ كبار المسؤولين، بمَن فيهم بعض المحافظين في محافظات مصر الـ27، وجميعهم معيّنون أصلاً من جانب مبارك أو المجلس العسكري، التقليد الذي كان متَّبعاً في عهد مبارك باستئجار “البلطجية” العاملين خارج إطار القانون، والذين يُعتقَد أن عددهم يتراوح بين 100 و500 ألف، لفرض سلطة الدولة.14  وغالباً ماكانت الشرطة تنصح المواطنين باستئجار البلطجية لأخذ حقوقهم بالقوة. وفي بعض الأحياء الفقيرة في المدن، تخلّت الشرطة عن وظائفها تماماً لصالح العصابات الإجرامية التي كانت تدير أعمالاً غير قانونية في مجالات الحماية والتهريب والدعارة، وشكّلت ميليشيات خاصة بها.15 

اتّبعت إدارة مرسي، إزاء عدم تعاون وزارة الداخلية معها، وسائل أخرى للتصدّي لتدهور القانون والنظام العام. ففي تشرين الأول/أكتوبر من العام 2012، منح وزير العدل الجديد صلاحيات الشرطة القضائية إلى هيئة الرقابة الإدارية، جهاز الرقابة الرئيس في البلاد، وفي آذار/مارس 2013 منح النائب العام سلطات مماثلة للمواطنين. وذُكِر أن وزارة العدل كانت تستعد هي الأخرى في الفترة نفسها للسماح لشركات الأمن الخاصة بحمل السلاح والقيام باعتقالات.16  جاء ذلك في أعقاب تقديم إدارة مرسي مشروع قانون يقضي بإضفاء الصفة القانونية على الشركات الأمنية الخاصة المسلحة لحماية الممتلكات الخاصة، انطلاقاً من اقتراح تم تقديمه أصلاً في تشرين الثاني/نوفمبر 2011. 17  غير أن الاقتراح الأخير قوبل بالرفض من جانب الشرطة ونشطاء حقوق الإنسان، الذين أعربوا، بحسب أحد المحللين، عن “خشيتهم من أنه سيشرعن ويوسّع الميليشيات الخاصة” المسلحة بأسلحة مهرّبة من ليبيا المجاورة.18 

سعت إدارة مرسي أيضاً إلى تفويض بعض المسؤولية عن القانون والنظام العام إلى هيئات غير رسمية، معتمدة على نجاح المجتمعات المحلية في ملء الفراغ الذي تركته الشرطة في بعض الأحياء في أعقاب إطاحة مبارك. ففي منتصف آذار/مارس 2013، اقترح حزب الحرية والعدالة إضفاء الشرعية على اللجان الشعبية باعتبارها جهاز شرطة ثانوياً مرتبط برئاسة الجمهورية.19  ومن قبيل المفارقة، تبنّى النظام الجديد الذي أطاح مرسي الفكرة. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2014، قدم مجلس الدولة مشروع قانون مفاده تشكيل شرطة مجتمعية مؤلفة من الرجال والنساء بين سنّ الـ18 و22 وبتفويضهم صلاحية الاعتقال لإسناد الشرطة، بحسب أحد الباحثين، “في مواجهة الجريمة وتعزيز الشعور بالأمن لدى المواطنين… وخلق الثقافة الأمنية”.20 

أما في عهد مرسي، فأثارت هذه التحركات المختلفة اتّهامات فورية من الشرطة ومصادر عسكرية بأن جماعة الإخوان المسلمين تسعى إلى “تدمير الشرطة” وتفتح الباب أمام تشكيل “ميليشيات خاصة”.21  حدث ذلك على خلفية جدل عام يزداد استقطاباً وإثارة للمخاوف بشأن دور “لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الإسلامية غير المرخّصة، على غرار شرطة الآداب السعودية (المطوّعين). ظهرت اللجان الأولى في كانون الأول/ديسمبر 2011؛ ونفى المتحدثون باسم الرئيس مرسي وجودها بعد توليه الرئاسة، ومع ذلك أعلنت جماعة أخرى من شرطة الآداب عن نفسها في الأول من آذار/مارس 2013. 22  وفاقمت الجماعة الإسلامية المتشدّدة الأجواء المشحونة أصلاً في شباط/فبراير 2013 بالإعلان عن تشكيل فِرَق “الدفاع عن النفس” لمواجهة العابثين والبلطجية والفوضويين المعادين للإسلاميين، وكشفت في آذار/مارس أنها ستسعى إلى حصول على موافقة تشريعية من مجلس الشورى.23 

خطأ المهادنة والعودة إلى المربع الأول

كان وزير الدفاع آنذاك اللواء عبد الفتاح السيسي وأعضاء آخرون في المجلس العسكري قد تخلّوا في هذا الوقت عن الأمل في التعايش مع جماعة الإخوان المسلمين في الحكم. وكانت وزارة الداخلية قد روّجت لهذا الرأي في الكواليس منذ فترة طويلة، بحجّة أن جماعة الإخوان تشكّل “تهديداً للأمن القومي وعليها أن ترحل”.24  بالنسبة إلى منتقديها، في المقابل، لم تتخلَّ وزارة الداخلية أبداً عن “النمو الأخطبوطي حيث تمدّد إلى كل مفاصل جهاز الدولة بهدف السيطرة عليه”.25  بحسب هذا الرأي، كان قطاع الأمن يواجه تحدّيات وظيفية وهيكلية وإدارية وقانونية تجعل الإصلاح يتطلّب بالضرورة “عملية إعادة بناء وليس إعادة هيكلة” للقطاع الأمني.26 

بدا أن بعض كبار المسؤولين في وزارة الداخلية موافقون على ذلك. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2011، ألمح مساعد وزير الداخلية آنذاك اللواء عبد اللطيف البديني إلى أن هيكل الوزارة بأكمله يحتاج إلى استبدال، علماً أنه أضاف مستدركاً أن هذا لايمكن أن يحدث إلا “بعد أن يكون الوضع السياسي والأمني قد استقر”.27  لم تكن الإشارة إلى الاستقرار في غير محلّها، حيث علّق أحد الكتاب المؤيدين للإصلاح في ذلك الوقت إن “إنجاح الانتقال الديمقراطي يقتضي تعزيز هذه المؤسّسات [الأمنية]، وليس تفكيكها”.28  غير أن الوزارة رفضت، في أيار/مايو 2012، إدخال تعديل على قانون تأسيسها كان من شأنه إخضاعها لمراقبة جهاز رقابي جديد ينشئه مجلس الشعب. وفي سياق تبرير ذلك، ادّعى رئيس الدائرة القانونية في الوزارة بأنه لم تكن ثمّة حاجة لمراقبة الوزارة بعد الثورة، لأن التجاوزات “الفردية” التي وقعت في السابق ليست جزءاً من سياسة منهجية، ويمكن للقطاع الأمني الآن مراقبة نفسه بأمان.29 

لم تتم إعادة بناء الشرعية العليا لوزارة الداخلية، إذاً، بل أنها لم تكن تائبة كذلك. 

في سياق سعيها إلى التوصّل إلى تعايش مع قيادات قطاع الأمن، أضاعت إدارة مرسي الفرصة للاستفادة من المشاعر الإصلاحية بين أفراد القطاع من جميع الرتب. فقد طالب رجال الشرطة الذين بدأوا سلسلة من الإضرابات العشوائية في تشرين الأول/أكتوبر2011، بإقالة كبار قادة الشرطة المتّهمين بالفساد، والمساواة في حق الدخول إلى مستشفيات الشرطة لجميع الرتب (الضباط وصف الضباط والخفراء على حدّ سواء)، ووضع حدّ لولاية نظام القضاء العسكري على رجال الشرطة. وسعى الائتلاف العام لضباط الشرطة – الذي ادّعى أن لديه 5 آلاف عضو في كانون الثاني/يناير 2012 ولكن وزارة الداخلية رفضت تسجيله كنقابة رسمية للشرطة – إلى خفض سنّ التقاعد إلى 60 عاماً، وتطبيق الحدّين الأدنى والأقصى للأجور، وتفعيل عدد ساعات العمل الرسمي إلى ثماني ساعات يومياً.30 

كانت تلك مطالب مُحِقَّة، لابل أساسية، لأي عملية إصلاح حقيقية. غير أنه لا الحكومتان المؤقّتتان اللتان عيّنهما المجلس العسكري ولاحكومة قنديل في وقت لاحق اتّخذت أي إجراءات، باستثناء إدخال بعض الزيادات في الأجور. بحلول آذار/مارس 2013، بدأت ائتلافات الشرطة المؤيّدة للإصلاح تشكو من أن إدارة مرسي تتجاهل مقترحاتها “لتحسين المساءلة وقواعد الترقية والاستبقاء والتدريب”.31  وقال المتحدث باسم مجموعة “ضباط لكن شرفاء” إن إدارة مرسي تفتقر إلى أي “إرادة سياسية حقيقية لإعادة هيكلة وزارة الداخلية، وهذا ماجعلنا نعود إلى المربع الأول”.32 

الشرطة من الانتقام إلى استعادة الحصانة

تنازلت إدارة مرسي عن إدارة القطاع الأمني تماماً لوزارة الداخلية. فسعت الوزارة إلى درء مشاعر الإحباط والاستياء لدى الشرطة وتوجيهها بعيداً عن نفسها، في الوقت الذي كانت تشجّع المشاعر المعادية للإصلاح بين مختلف الرتب. شعر أفراد الشرطة بأنهم وقعوا في الفخ: فالجمهور كان يتوقّع منهم العمل على توفير النظام العام وإنفاذ القانون، ولكنهم سيتعرّضون إلى المحاكمة إذا ماتسبّبوا بإصابة أو وفاة وهم يدافعون عن أنفسهم ضد الاعتداء الجسدي، حتى من البلطجية. لكن لم توفّر الحكومة قواعد أكثر صرامة للاشتباك وإصلاحات قانونية بعيدة الأثر تتناول حقوق واحتياجات أفراد قطاع الأمن الأساسية. 

نتيجة لذلك، تحوّل شعور الشرطة بالصدمة والتراجع بعد انتفاضة العام 2011 إلى استياء ورغبة في الانتقام. تم إحياء النظرة التي غُرِسَت في الأذهان أثناء تدريب رجال الشرطة بأن جميع المدنيين سيئون أو دونيون، عاد استخدام التعذيب وغيره من انتهاكات حقوق الإنسان التي كانت تمارس على نطاق واسع في عهد مبارك. ادّعت شخصيات بارزة مثل أحمد حلمي، نائب وزير الداخلية آنذاك، أن “حماية حقوق الإنسان أصبحت القاعدة الأساسية والمبدأ الأساسي لجميع العاملين في الأجهزة الأمنية”.33  غير أن “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” اعتبرت في كانون الثاني/يناير 2013، إن “وزارة الداخلية فوق القانون… وتواصل الشرطة المصرية استخدام العنف والتعذيب بصورة منهجية، لابل إنها تقتل أحياناً”.34  وقبل عزل مرسي بوقت قصير، ذكر “مركز النديم لتأهيل ضحايا التعذيب” أنه كان قد سجل 359 حالة تعذيب خلال السنة التي قضاها مرسي في منصبه، أفضت 217 حالة منها إلى الوفاة.35 

وابتداءً من أواخر العام 2012 فصاعداً لجأت الشرطة إلى استخدام العنف غير القانوني بوتيرة متزايدة ضد المجتمعات المدنية التي كان ينظر إليها على أنها عدائية. وقد أصبح أي شكل من أشكال الاحتجاج تقريباً مجرَّماً في أذهان رجال الشرطة. 

ومع تصلُّب مواقف رجال الشرطة، فقد تغيّرت طبيعة مطالبهم. وابتداءً من كانون الثاني/يناير 2013 فصاعداً، ركّزوا بصورة متزايدة على الحاجة إلى وجود قواعد اشتباك أكثر مرونة تتيح استخدام الذخيرة الحيّة ضد المتظاهرين، وإلى الحصانة القانونية لرجال الأمن، وإعطاء الأسلحة النارية لجميع الأفراد. وفي موازاة ذلك، تراجع إنفاذ القانون بصورة حادّة، حيث أظهر استطلاع للرأي أن ثلثي الجمهور لايثقون في الشرطة بحلول حزيران/يونيو.

إحياء دولة مبارك البوليسية، بل وأكثر من ذلك

فشلت سياسة إدارة مرسي في مهادنة قطاع الأمن، على أمل تحييده، فشلاً ذريعاً. فقد أهدرت الفرصة التي أتاحها التأييد الشعبي الواسع في البداية والشرعية المكتسبة من انتخابات الرئاسة، لكي تحفِّز العناصر الإصلاحية في داخل قطاع الأمن، ولتعمل يداً بيد مع الأحزاب السياسية الأخرى وجماعات المجتمع المدني. فكان بوسعها أن تنفِّس وتقلب المعارضة في داخل قطاع الأمن لو تبنّت إجراءات مصمَّمة لإدخال التحسنات الملموسة في التدريب والقدرات والإمكانيات وظروف الخدمة من جهة، مع ربط كل ذلك من الجهة الأخرى بضرورة تحقيق نتائج مطلوبة في إنفاذ القانون وكسب ثقة المواطنين. 

بدلاً من ذلك، لعبت وزارة الداخلية دوراً محورياً في الإطاحة بمرسي يوم 3 تموز/يوليو وفي عمليات القمع التي تلت ذلك. ففي يوم 14 آب/أغسطس قتلت قوات الشرطة شبه العسكرية بمساعدة من أفراد الجيش “817 شخصاً على الأقل، وعلى الأرجح أكثر من 1000” من أعضاء وأنصار جماعة الإخوان المسلمين في موقعَي الاحتجاج الرئيسَين في القاهرة، وفقاً لتحقيقات استمرت عاماً قامت بها منظمة “هيومن رايتس ووتش”. وقدّرت المنظمة أن “قوات الشرطة والجيش استخدمت القوة المميتة المفرطة بشكل منهجي ومتعمَّد في عمليات حفظ النظام”، وخلصت إلى أن “عمليات القتل لم تشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان وحسب، بل إنها ترقى على الأرجح إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية”.36 

كان النطاق غير مسبوق. ربما قضى عدد أكبر من المدنيين العزَّل في القاهرة يوم 14 آب/أغسطس منه في الهجوم الذي تم بالأسلحة الكيميائية على ضواحي عدة في العاصمة السورية دمشق بعد أسبوع واحد.37  وخلص مدير “هيومن رايتس ووتش”، كينيث روث، إلى أن وزير الداخلية المصري محمد إبراهيم “كان المهندس الرئيس لخطة فضّ الاعتصامات”، وقد نفّذها تحت الإشراف المباشر للسيسي، الذي كان لايزال آنذاك وزيراً للدفاع ونائباً لرئيس الوزراء، وأصبح رئيساً فيما بعد.38  وتعليقاً على سفك الدماء، تعهّد إبراهيم بأنه “سيتم استعادة الأمن في هذا البلد كما كانت عليه الحال قبل 25 يناير [2011]، وأكثر من ذلك”.39 

أكدت التطورات اللاحقة تمكين قطاع الأمن، الذي سعى ليحوِّل الانتفاضة الشعبية الحقيقية في حزيران/يونيو 2013 إلى تأييد لاستيلاء القوات المسلحة على الحكم. فقد ذكرت قاعدة البيانات التي يحتفظ بها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن 41163 شخصاً قد اتُّهموا أو اعتقلوا “على خلفية سياسية أو طائفية أو احتجاجات اجتماعية أو عمالية أو أعمال إرهابية أو محاكمات عسكرية للمدنيين” بين 3 تموز/يوليو 2013، و15 أيار/مايو 2014. 40  وفي كانون الثاني/يناير 2014، أشارت منظمة العفو الدولية إلى أن مصر تشهد حالة من “العنف على نطاق غير مسبوق، حيث ترتكب قوات الأمن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتستخدم القوة المفرطة بصورة نمطية، بما في ذلك القوة المميتة، ضد متظاهري المعارضة والتظاهرات في داخل حرم الجامعات”.41  وفي تموز/يوليو وصفت المنظمة استخدام التعذيب بأنه” متفشٍّ”، مع شيوع الصعق الكهربائي والشنق والضرب المبرح والاعتداء الجنسي، وأشارت إلى وفاة 80 معتقلاً على الأقل خلال احتجازهم من قبل الشرطة خلال العام السابق.42  علاوة على ذلك، أظهرت عملية إحياء جهاز الأمن السياسي في تشرين الأول/أكتوبر 2013، وهو جهاز من عهد مبارك مكلّف بمكافحة جماعة الإخوان المسلمين، سهولة التراجع عن الإصلاحات الهيكلية الشكلية.

في موازاة ذلك، صدرت سلسلة من القوانين، في الفترة بين أيلول/سبتمبر 2013 وتشرين الثاني/نوفمبر 2014، عن الحكومة المؤقتة بعد الانقلاب، أو عن الرئيس المؤقت عدلي منصور، الذي حلّ محلّ مرسي، أو عن السيسي، الذي خلف منصور في حزيران/يونيو 2014، مكّنت قطاع الأمن والمحاكم والنائب العام من اللجوء بصورة متكرّرة إلى إجراءات استثنائية لم تكن ممكنة في عهد مبارك إلا من خلال الإبقاء على حالة الطوارئ لمدة 30 عاماً من حكمه. كان من أهم الإجراءات إلغاء الحدّ الأدنى للحبس الاحتياطي للمتهمين بارتكاب جرائم يعاقب عليها بالسجن المؤبّد – مثل طلب أو تلقّي أموال من الخارج لأغراض ترى السلطات أنها تضرّ بـ”المصلحة الوطنية”، كما يحلو لها تعريفها – مايعني نظرياً إبقاء المعارضين السياسيين في السجن حتى الموت؛ وفرض قواعد مقيِّدة على التجمعات العامة وفرض العقوبات الشديدة على التظاهرات غير المرخّصة، التي تؤدّي فعلياً إلى حظر الاحتجاج كلياً؛ وقانون “الكيانات الإرهابية” الذي يسمح للسلطات باستهداف “أي جمعية أو منظمة أو جماعة أو عصابة” ترى السلطات أنها تشكّل تهديداً للنظام العام أو الوحدة الوطنية أو السلم الأهلي.43 

أضفى الدستور المُعدَّل الذي تمّت الموافقة عليه في استفتاء عام في كانون الثاني/يناير 2014، الصفة الرسمية على استقلالية قطاع الأمن عن أي رقابة مدنية، ناهيك عن الحوكمة الديمقراطية، وذلك من خلال منح وزارة الداخلية حق النقض فعلياً على أي قانون يتعلّق بالشرطة. كما تم تشديد الرقابة الداخلية حيث أُعيد التأكيد على الحظر المفروض على تشكيل نقابات الشرطة وحرمان أفراد قطاع الأمن من حق التصويت في الانتخابات العامة، على الرغم من أن هذا الحق ممنوح بوصفه حقاً لجميع المواطنين في أجزاء أخرى من الدستور. وفي تشرين الأول/أكتوبر، أصدر السيسي قانوناً يجعل النظر في الجرائم التي يرتكبها المجنّدون المحوّلون إلى الخدمة في الشرطة من اختصاص المحاكم العسكرية، مانقض جزئيّاً قرار المحكمة العليا في العام 2012 بعدم جواز إخضاع الشرطة إلى القضاء العسكري دستوريّاً.44 

لقد برزت وزارة الداخلية باعتبارها شريكاً رئيساً في ائتلاف مؤسّسات الدولة الذي يحكم الآن مصر، وكثيراً ماتلعب دوراً قيادياً في تشكيل طريقة ممارسة الدولة لسلطتها في الحياة اليومية للمواطنين. فيتم استبدال دولة مبارك “الأمنوقراطية”، والتي حافظ فيها الرئيس على الضوابط والتوازنات في حين مارست النخب السياسية نفوذاً كبيراً من قاعدتها في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، بدولة بوليسية علنية. ومع ازدياد العنف السياسي كلما تعمّق الصراع وتجذّر بين الجانبين في مصر، ستبقى الفرصة مغلقة أمام إصلاح قطاع الأمن إلى حين تحقيق المصالحة الوطنية.

يأتى هذا التقرير فى الوقت الذى أحالى فيه النائب العام ضابطا في الشرطة إلى القضاء بتهمة قتل الناشطة شيماء الصباغ قبل أمس.. وجاء في بيان النائب العام، هشام بركات أن النيابة أنهت تحقيقاتها في قضايا شغلت الرأي العام المصري، وهي قضايا محمد الجندي وشيماء الصباغ، واستاد بورسعيد، وقدمت المتهمين إلى المحاكم الجنائية.

 وكشفت تحقيقات النيابة العامة أن السبب وراء مقتل شيماء الصباغ كان إصابتها بطلق ناري أطلقه أحد ضباط الشرطة.

 وكانت المنظمة الحقوقية” هيومن رايتس ووتش” أفادت في بيان نشرته في مطلع شهر فبراير/شباط أنها تمتلك أدلة موثقة من صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو وأقوال شهود تشير إلى مسؤولية أحد أفراد قوات الأمن المصرية عن إطلاق النار على شيماء الصباغ في الـ 24 من يناير/ كانون الثاني.

 وقالت المنظمة إن الأدلة أظهرت رجل شرطة يقوم بتوجيه بندقية خرطوش في اتجاه مجموعة مكونة من نحو 20 متظاهرا سلميا كانت الشرطة تفرقهم بميدان طلعت حرب.

 وأضاف بيان المنظمة أن شيماء الصباغ تظهر بعد ذلك وهي تسقط على الأرض في أعقاب الطلقة لتتوفى لاحقا جراء ما وصفته المصادر الطبية بأنه” إصابات بخرطوش”.

 وأعلن النائب العام المصري هشام بركات عن فتح تحقيق في مقتل الصباغ في اليوم ذاته الذي قتلت فيه، مشيرا إلى أن التحقيق سيشمل مراجعة كاملة لكل الأدلة المتاحة بما فيها كاميرات المراقبة وسجلات السلاح التي تفصل بين أنواع الأسلحة التي استخدمتها قوات الأمن بالإضافة إلى التحقيق مع عناصر الشرطة الذين فضوا المظاهرة.

 شيماء الصباغ هي مسؤولة العمل الجماهيري لحزب التحالف الاشتراكي (حزب يساري تأسس عقب أحداث يناير) متزوجة ولديها طفل، وهي إحدى الناشطات السياسيات الفاعلات في مصر، خصوصا في ملف العمال ومتابعة تحركاتهم، ونشرت الصباغ يوم 29 ديسمبر/كانون الأول 2014 تدوينة تعلن التزامها التنظيمي بقرارات الحزب بشأن خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى