رأىسلايدر

قراءة فى أسباب التغيير الأميركي حيال إسرائيل

استمع

بقلم: مفيد الديك

الدبلوماسي الأمريكى.. والإعلامى المخضرم

كثر الحديث خلال الأيام الـ 11 من المواجهة الدامية بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة التي خلفت مئات القتلى وآلاف الجرحى فضلا عن الخسائر الرهيبة في الممتلكات والبنى التحتية، عن بدء حدوث تغير في المواقف الأميركية، الرسمية والشعبية، من القضية الفلسطينية والتعاطي مع إسرائيل.

هل حدث تغيير فعلا؟ وهل كان التغيير في الموقف الأميركي الرسمي مواكبا للتغير في الشارع الأميركي من إسرائيل/فلسطين؟ ما أسباب هذا التغيير وما هو حجمه؟ هل هو تغير أساسي دائم ويؤشر إلى يقظة أميركية تجاه الحقوق الفلسطينية؟ وهل يمكن ترجمة هذا التغيير في الموقف الشعبي الأميركي إلى انتقالة حقيقية في المواقف السياسية الرسمية الأميركية في كل من الكونغرس الأميركي والبيت الأبيض؟ هل يؤدي هذا التغيير إلى اضطرار بايدن إلى غمس يديه من الرسغ إلى الكوع في عملية سلام تؤدي إلى حل جذري للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، كما يقول؟

أولا، دعونا نتفق على أن وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل صبيحة الجمعة الماضية جاء بعد يوم واحد من الضغط الذي مارسه الرئيس بايدن على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خصوصا في اتصالهما الأخير يوم الأربعاء الماضي الذي أشارت التقارير إلى أن بايدن أبلغ فيه نتنياهو بلغة صارمة جدا بأن عليه أن يسعى إلى “تخفيف كبير” لحملة القصف التي كانت تشنها بلاده على غزة. وجاءت تلك المكالمة العاصفة، على ما وصفته التقارير الإعلامية، بعد أن كان بايدن قد تعامل مع نتنياهو بلهجة مؤيدة وداعمة، سواء في الاتصالات الخاصة أو في بيانات الحكومة الأميركية العامة، وبعد أن كان بايدن قد أحبط أربعة مشاريع قرارات وبيانات من مجلس الأمن ضد إسرائيل.

ولكن دعونا نعترف أنه حتى لو سمح بايدن بتمرير واحد من تلك القرارات الأممية أو لو سمح بإصدار بيانات علنية عن المؤسسات الحكومية الأميركية مناهضة لإسرائيل، فما فائدة كل ذلك؟؟ بصراحة، صفر. إذن رغم الانتقادات التي وجهت لإدارة بايدن بسبب تعامله “اللطيف” مع نتنياهو في الأيام الأولى من المواجهات،فإن دبلوماسيته الهادئة هي التي أدت إلى وقف إطلاق النار. ودعونا نتساءل بموضوعية أيضا، ماذا فعلت الدول الـ 14 الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن الدولي في كل مرة كانت ترفض إدارة بايدن تمرير مشروع قرار للمجلس؟ الجواب هو صفر. خلاصة كل ذلك: أن الولايات المتحدة لا زالت هي الدولة الوحيدة في العالم التي تتميز بنفوذ ما على إسرائيل ومسلكها. بقية العالم، من دول عربية ودول صغرى وكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن – روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، ليس لها أي تأثير على الدولة العبرية. إسرائيل تدرك بناء على خبرة تاريخية مثبتة أن أميركا تحميها من كل شيء. إذن أي تغيير في الموقف الأميركي الشعبي، وبالتأكيد الرسمي، سيكون مهما في التعامل مع الموضوع الفلسطيني.

خلال السبعين سنة الماضية من الصراع العربي الإسرائيلي، كانت تصدر آراء هنا وهناك تؤيد الجانب العربي، ولكن هذه الجهات كانت هامشية وغير فاعلة وكان يسهل على اللوبي الإسرائيلي في واشنطن إخؤاجها من النقاش العام بضربة قاضية واحدة هي اتهامها باللاسامية! وفي نفس هذه الفترة ظلت الغالبية العظمى من الأميركيين، وغالبية الإدارات الأميركية – من هاري ترومان الذي كان أول رئيس عالمي يعترف بقيام إسرائيل سنة 1948 إلى بايدن الذي انتخب قبل سبعة أشهر –تقف بصلابة وثبات مع إسرائيل ضد كل العرب مجتمعين، وضد أي طرف عربي يقف ضد إسرائيل على حدة.

لكن ما حدث هذه المرة هو أنه طوال فترة الصراع العسكري الأخير، واجه بايدن ضغوطًا جديدة من فصيل جديد من الحزب الديمقراطي أصبح متشككًا بشكل متزايد في المعاملة الأميركية الناعمة التي تلقتها إسرائيل تاريخيًا من الولايات المتحدة، وحتى حتى من بعض التقدميين البارزين في المشهد السياسي الأميركي مثل السناتور التقدمي – واليهودي — بيرني ساندرز. ولكن هذه المرة، انبرت مجموعة صغيرة، إنما مؤثرة من أعضاء الكونغرس الديمقراطيين المسماة بـ squad “الفرقة” التي ركزت في هذه المواجهة وبصوت عال على الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان ضد الشعب الفلسطيني وعلى مطالبتهم بتقليص السياسات المؤيدة لإسرائيل – وتحديداً المليارات من المساعدات العسكرية التي ترسلها الولايات المتحدة كل عام. هذه الفرقة مكونة من عضو الكونغرس الأميركي الفلسطينية الأصل رشيدة طليب من ولاية مشيغان والصومالية الأصل إلهان عمر من منيسوتا وألكزاندرا كورتيز اللاتينية الأصل من ولاية نيويورك.

هذا التغيير حقيقي، وهو لا يقتصر على الجناح اليساري للحزب الديمقراطي فحسب. فقد دعا عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين المعتدلين نسبياً، والذين كانوا تاريخيا مؤيدين شرسين لإسرائيل، بايدن إلى التصرف بقوة وصرامة أكبر في السعي لوقف إطلاق النار، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة إسرائيل علنًا.

على الصعيد الشعبي أيضا، كان الانتقاد مواكبا للتغيير في أروقة الكونغرس. أعضاء الكونغرس هم جبناء ومصلحيون وانتهازيون في العادة، وليسوا مبدئيين، ويراقبون بدقة استطلاعات الرأي لمواطني دوائرهم الانتخابية لتقرير مواقفهم من قضية ما. ولكن هذا هذا هو الموقف السليم في الديمقراطيات، إذ على المشرع أن يعبر عن مواقف مناصريه لأنه يمثلهم. أنظروا إلى هذا المقتطف من بيان أصدرته هيئة مدرسي أهم جامعة أميركية، جامعة هارفارد، قبل يومين من المواجهة العسكرية الأخيرة بين إسرائيل وفضائل المقاومة في غزة، والسياسة الأميركية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

” بصفتنا باحثين مقيمين في الولايات المتحدة يعارضون العنصرية والعنف الاستعماري بجميع أشكاله، نكتب للتعبير عن تضامننا مع الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية وتقرير المصير. لقد دمر عنف الدولة الإسرائيلية حياة الفلسطينيين من خلال مزيج من الحرب وسرقة الأراضي والتهجير العنيف. وقد غذى الدعم المالي والعسكري والسياسي الثابت للولايات المتحدة نظام الفصل العنصري في إسرائيل الذي يضفي الطابع المؤسسي على الهيمنة والقمع للفلسطينيين. التقارير الأخيرة الصادرة عن هيومن رايتس ووتش ومنظمة بتسيلم الإسرائيلية لحقوق الإنسان ليست سوى أحدث التقارير التي توثق هذا الواقع. الجهد الحالي لطرد الفلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس. العنف في المدن الإسرائيلية مثل اللد وحيفا، حيث تقف الشرطة الإسرائيلية متفرجة وتسهل الهجمات اليمينية المتطرفة على الفلسطينيين؛ والهجوم العسكري على قطاع غزة ليسا سوى الأحداث الأخيرة في عملية نزع الملكية المستمرة منذ عقود. لا يُحرم الفلسطينيون من الحرية وتقرير المصير فحسب، بل هم يُحرمون من حق المقاومة. المقاومة الفلسطينية بكافة أشكالها مجرٌمة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة. يخضع كل إجراء للدفاع عن النفس من قبل شعب بدون دولة أو جيش ضد قوة نووية تدعمها الولايات المتحدة للرقابة الفورية بينما تواصل إسرائيل اعتداءاتها العنيفة دون عقاب.”

إضافة إلى ذلك، بينت أحدث استطلاعات للرأي في الولايات المتحدة أن أغلبية ضئيلة من الأميركيين الآن، ولأول مرة، أنه يجب على الحكومة الأميركية ممارسة المزيد من الضغط على إسرائيل. فقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة غالوب البارزة لاستطلاعات الرأي هذا العام قبل أيام فقط، أن غالبية الأميركيين الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أن مشرعيهم يميلون إلى دعم إسرائيل أكثر مما يفعل الجمهور الأميركي بصورة عامة. وحسب هذا الاستطلاع، فإن غالبية الناخبين الديمقراطيين الأميركيين يؤيدون فرض عقوبات أو على الأقل شكل من أشكال الإجراءات الأكثر صرامة على إسرائيل بسبب توسعها الاستيطاني. وجاء في الاستطلاع أنه إذا لم يعد حل الدولتين ممكناً، فإن أغلبية كبيرة من الأميركيين، بمن في ذلك غالبية من الجمهوريين، ستختار إسرائيل ديمقراطية، حتى وإن كانت دولة غير يهودية خالصة، على دولة يهودية بدون مساواة كاملة لجميع مواطنيها، بمن فيهم الفلسطينيون.

وتمثل هذه الانتقادات الصاخبة من الديمقراطيين خروجًا غير مسبوق عن الدعم السياسي من الحزبين السياسيين الرئيسيين في الولايات المتحدة، الديمقراطي والجمهوري، الذي تتمتع به إسرائيل منذ إقامتها تقريبا – ولأسباب مختلفة يصعب الخوض فيها الآن، من الولايات المتحدة.

أسباب هذا التغير كثيرة ومتنوعة. فيرى بعض المحللين السياسيين سببًا للاعتقاد بأن الولايات المتحدة يمكن أن تكون مستعدة لإعادة تقييم دعمها التقليدي الثابت لإسرائيل. تشير استطلاعات الرأي، كما استطلاع غالوب الأخير، إلى أن التعاطف المتزايد مع القضية الفلسطينية وبين المشرعين الديمقراطيين يقابله تحول مماثل في الرأي لدى الجمهور الأوسع، وخاصة الأميركيين الأصغر سنًا. ويقول آخرون إن أحد أسباب هذا التغيير الأخرى هو العلاقة الحميمة المثيرة للجدل التي رسخها دونالد ترامب مع نتنياهو وتغييره الساحق لكل السياسات الأميركية السابقة تجاه الموضوع الفلسطيني بدءا بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقله لسفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس، وهو الذي ربما جعل السياسة الإسرائيلية قضية خلافية بين الحزبين السياسيين الأميركيين أكثر بكثير مما كانت عليه في الماضي. وهناك من يرى بأن تحول إسرائيل إلى اليمين في العقود الثلاثة الماضية ربما بدأ يرسخ شعورا لدى غالبيانت مهمة في المتمع الأميركي بأن “هه الإسرائيل الحالية ليست هي التي أيدناها بهذه القوة في الأربعين سنة التي سبقت ذلك. هذه الإسرائيل، لم تعد الدولة الديمقراطية الليبرالية التي تماهينا معها لأنها مانت تشبهنا أكثر.”

ولكن ورغم هذا التغيير والنتيجة المتواضعة التي أفضت إليه، أي وقف إطلاق النار، يجادل المشككون بأن تصرفات بايدن في الأيام الأخيرة تظهر مدى ضآلة الضغط من جانب حزبه عليه لاتخاذ قرارات أكثر أساسية في البيت الأبيض. الحقيقة أن بايدن قام بإلغاء الغالبية العظمى من سياسات ترامب تجاه إسرائيل، لكنه ترك بعضًا من أكثر السياسات إثارة للجدل في مكانها – وأبرزها قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس. وعلى الرغم من أن الدعوة إلى وقف إطلاق النار هي خطوة لم يكن من المؤكد تقريبًا أن يتخذها ترامب لو كان هو الرئيس الذي خيضت هذه المواجهة في عهده الثاني، فإن عددًا من التقارير الإعلامية تشير إلى أن إدارة بايدن مترددة في استثمار رأسمالها السياسي في معالجة الهدف الأكثر صعوبة – وربما المستحيل – المتمثل في التوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين والتوصل إلى اتفاق سلام طويل الأمد. ويشير آخرون إلى أن الكتلة الناشئة الجديدة من منتقدي إسرائيل لا تزال أصغر من أن تتمكن من إرغام بايدن على التصرف بطريقة تحل الموضوع الفلسطيني الإسرائيلي من أساسه، أي إنها الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 مع تعديلات طفيفة.

والخلاصة، أنه رغم أن هذا التغيير حقيقي وملموس وكبير نوعا ما في الولايات المتحدة، فمن غير الواضح حتى الآن ما إذا كان هذا الموقف الجديد سيؤدي إلى تغييرات جوهرية في السياسة الأميركية. ولكن بعض الخبراء يؤكدون أن هذا التحول، إلى جانب الشكوك على نطاق واسع في أن حل الدولتين لا زال ممكنا، قد يعني أن الرياح السياسية المعاكسة التي هبت على المعاملة الأميركية غير الصدامية لإسرائيل ربما تكون قد تغيرت. وقد يكون استعداد بايدن لتكثيف الضغط على نتنياهو في السر كما تبين في أعقاب وقف إطلاقة النار علامة على تغييرات في العلاقة قد تكون بداية لتغير أكثر ديمومة.

أصدقائي، تذكروا أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة. وتذكروا أن أكبر إنجاز حققه لوبي إسرائيل القوي، الإيباك – AIPAC – حين شكله اليهود في خضم نهاية الحرب العالمية الثانية نهاية الأربعينات كان الضغط على السلطات الأميركية للسماح برسو سفينة كانت محملة بـ 700 يهودي هاربين من بطش السلطات الألمانية بعد أن ظلت تحوم على الشواطئ الأميركية لأكثر من ستة أشهر.

ورغم أن هذا التغيير الحادث مهم وينبغي البناء عليه بنشاط من قبل كل من هو معني بالقضية الفلسطينية، فإنني لا أعتقد أن إدارة بايدن مستعدة لتوسيع جهودها عن طريق طرح خطة جديدة لعملية سلام إسرائيلية فلسطينية لمعالجة الأسباب الحقيقية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي بدأ تقريبا قبل 100 عام. أسباب ذلك عديدة وربما أعود إليها في المقال التالي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى