رأى

‎تشيرنوبيل ” أمريكا ” !!

استمع

د. حذامى محجوب

نجحت أمريكا في فرض قيادتها على العالم منذ نهاية الحرب الكونية الثانية ، تحديدا سنة 1945. استمرت هذه القيادة طوال 7 عقود كاملة ، رغم إخفاقات عديدة ومغامرات عسكرية أودت بحياة الملايين من البشر ، مثل حرب الفياتنام و غزو العراق.

لكن خلال الثلاث سنوات الأخيرة ، تحت إدارة دونالد ترامب أخذ نفوذ الولايات المتحدة في التراجع أمام صعود العملاق الصيني وبروز روسيا من جديد، دولتان استفادتا كثيرا من تراجع مكانة أمريكا في العالم فترة حكم دونالد ترامب.

‎منذ وصوله سدة الحكم ، تصرف ترامب كرجل اعمال لا كرئيس دولة عظمى، اذ ما فتئ يتخذ القرارات العشوائية الفردية التي ينظر بها الى الدول والشعوب من منطلقات حسابية ضيقة ، لا تهتم الا بما ستجنيه من ربح مالي، استفرد بكل الملفات المتعلقة بالسياسة الخارجية التي أصبح يتولاّها و يديرها بمعية صهره ” غاريد كوشنر ” الذي هو في الآن نفسه مستشاره المفضل ، وقد تصرف في هذه السياسة ضاربا عرض الحائط بكلّ الاتفاقات والمعاهدات الدولية، اذ لا تهمه الشعوب بقدر ما تهمه الأرباح والمكاسب حتى أنه يعتبر معاملاته مع الدول مجرّد صفقات لا غير.

‎ قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني يوم 8 مارس 2018 ، هذا الاتفاق الذي وقعته الإدارة الأمريكية زمن حكم أوباما مع شركاء دوليين –بريطانيا ، فرنسا ، ألمانيا ، روسيا ، الصين – ، هذا الاتفاق الذي حصل اثر مفاوضات شاقة دامت 18 شهرا بين ايران ومجموعة زائد واحد ،  اتفاق اكتسى لاحقا صبغة دولية بعد اعتماده من قبل مجلس الأمن الدولي، وهو الذي سمح بالتالي لإيران بفتح أبواب قطاعاتها الاقتصادية للشركات الأوربية و الأمريكية، التي تمكنت من عقد الكثير من الصفقات مع الطرف الإيراني.

‎مثّل قرار ترامب شهادة وفاة لهذا الاتفاق، لأن خروج الولايات المتحدة منه يعني انهياره بشكل كامل، حيث تتحكم أمريكا بما نسبته أكثر من 90% من اقرار و تنفيذ العقوبات على إيران، كما تتحكم في النظام المالي العالمي الذي من خلاله تستطيع فرض عقوبات تخشاها جميع الأطراف الموقعة، وهو ما لوّح به ترامب نفسه بكل صراحة قائلا : ” سنفرض أعلى مستوى من العقوبات على إيران”.

‎انّ الانسحاب الأمريكي من الملف النووي الإيراني تسبب في كشف ضعف أمريكا عسكريا ، لأن ايران في تحدّ صارخ للإدارة الأمريكية أسقطت طائرة استطلاع دون أن ترد واشنطن عسكريا، كما تجرأت ايران أكثر عندما وجهت ضربة قاسية الى منشآت أرامكو النفطية في السعودية عن طريق جماعة الحوثي في اليمن، لم ترد كذلك واشنطن الفعل عسكريا.

‎تباهى ترامب كذلك بأنه سيحسم الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بمشروع ” صفقة القرن”، أكد على نقل سفارة الولايات المتحدة الى القدس الامر الذي لم يجرأ عليه أي رئيس أمريكي قبله ، تحديدا منذ تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948 خارقا بذلك كل القرارات و الاتفاقات الدولية المتعلقة بهذا الصراع.

‎قرر ترامب كذلك اعتبار الجولان السورية المحتلة جزءا من إسرائيل، اضافة الى ضمّ المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة بالضفة الغربية والقدس الى إسرائيل.

‎خلّفت كلّ هذه التطوّرات شعورا عاما دوليا بانّ الولايات المتحدة دولة فوق القانون و المواثيق الدولية بعد ان كانت لسنوات تقدّم صورة عن نفسها كونها الأحرص على تحقيق السّلم و احترام ارادة الشعوب و المواثيق و القوانين التي تتّفق و تجمع عليها المجموعة الدولية و ذلك منذ سنة 1945.

‎ان كل هذه القرارات التي اتخذها ترامب -وغيرها – عصفت بكل الاتفاقيات والتفاهمات الدولية ، ووضعت الحلفاء والشركاء في مواقف صعبة ، بما خلف انطباعا لديهم أن ترامب لا يبحث عن تعاون دولي بقدر ما يبحث عن صفقات مربحة لأمريكا فقط، لهذا اتّجهت دول عديدة كانت حليفة لامريكا الى البحث عن تحالفات جديدة.

‎و قد تأكّد هذا التوجه مع جائحة فيروس الكورونا اذ تبيّن مرة أخرى للعالم أن دونالد ترامب لا يحسب حسابا للحلفاء ، اتخذ قرار حظر السفر لأروبا من جانب واحد دون الرجوع الى حليفه الاتحاد الأوربي ، كما لم تقدم أمريكا على غير عادتها أي نوع من المساعدات لأي دولة في العالم ، واللافت للنظر أن المساعدة الوحيدة التي عرضها ترامب كانت على إيران، التي رفضتها بكل استهزاء ، اذ وصف الرئيس حسن روحانى ترامب بالكاذب قائلا: ” انهم لو أرادوا المساعدة حقا ، فما عليهم سوى رفع العقوبات …عندها سيتمكن الإيرانيون من مقاومة هذا الوباء” ، وكان رد آية الله على خامنئى أكثر تهكما حين قال “ان أمريكا نفسها بحاجة الى من يساعدها”.

‎لكن هل سيجبر فيروس الكورونا دونالد ترامب على أن يتصرف كرئيس دولة عظمى؟

‎بعد أن سجلت أمريكا أكثر من 5000 ضحية، منها 1200 خلال ال 24 ساعة الأخيرة، وهو رقم مفزع و مخيف للغاية لم يقع تسجيله في أي بلد من قبل. كما وصل عدد المصابين بفيروس كورونا المستجد الى أكثر من 200 ألف ، ارقام تجاوزت بها أمريكا الصين وإيطاليا بعدد الإصابات خاصة في ولايات نيويورك وكاليفورنيا وواشنطن، في سياق متّصل يتوقع الخبراء تفشي الفيروس خلال الأيام القادمة بسرعة الضوء في بقية الولايات بما يمكن وصفه ب” تشيرنوبيل ” أمريكا.

‎كنا نعتقد قبل ظهور فيروس الكورونا أن من يقود العالم له استراتيجيات على الأمد القصير والمتوسط والبعيد، لكن انتشار هذا الوباء في الولايات المتحدة وما كشفه من ضعف و خلل في النظام الصحي الأمريكي، اضافة الى عدم جاهزيّته لاستيعاب المرضى، يجعلنا نشك بأن أمريكا ماتزال تقود العالم رغم قوتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية.

‎هل سيجبر فيروس كورونا ترامب على مراجعة حساباته؟ هل سيختار انقاذ أرواح ملايين الأمريكيين؟ أم أنه سيقلص من الإجراءات الوقائية خوفا من انهيار الاقتصاد في سنة الانتخابات؟ أم هل سيكون صاحب شعار ” أمريكا أولا ..” المتسبب في تراجع أمريكا وانفلات الزعامة منها؟

‎أجاب ترامب متسرعا كعادته في تغريدة على تويتر ” لا يمكننا أن نسمح بأن يكون العلاج أسوأ من الفيروس نفسه ” . هل يعقل أن تكون الانتخابات أهم من الحياة البشرية بالنسبة لرئيس أكبر دولة في العالم؟ هل سيرضى الأمريكيون بمثل هذا الموقف؟ أم أن ترامب سيفاجئ العالم و سيخرج أوراق أخرى في الأيام القادمة ؟

نرتقب ..؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى