رأىسلايدر

عندما تكون نهضة المجتمع بين “قلب إمراة وعقل رجل” ..!

استمع

بقلم: د. حذامى محجوب

المرأة هي نصف المجتمع ، والنصف الثاني يخرج من رحمها، رغم ذلك يقال عادة، انّ المراة هي العمل الوحيد غير الكامل ، الذي ترك الله أمر إتمامه للرجل !

يعلم الجميع ، خاصة في العالم العربي أن المشرّع التونسي يمنع منعا باتا تعدد الزوجات بموجب الفصل 18 من تشريع قانونيّ يعرف فى تونس باسم ” مجلّة الأحوال الشخصية ” مرجعيّته القانون عدد 70 لسنة 1958 ، الذي ينص صراحة على منع تعدد الزوجات، كما تترتب على مخالفة هذا القانون عقوبات زجرية تصل حدّ السجن.

لكن العديد من الناس لا يعلمون ان مثل هذا القرار الذي اتخذه بكلّ جرأة الزعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة، بعد اقل من خمسة أشهر من حصول تونس على الاستقلال ، يعدّ اهمّ خطوة اصلاحية ثورية لم يُقدم عليها زعماء عرب آخرون ، لا قبله و لا بعده.

هذا القانون المتعلق بحقوق المرأة والمعروف كما اشرنا، بمجلة الأحوال الشخصية المعلن في 13 أغسطس 1956م ، له بُعدْ حضاري في المجتمع التونسي، في التّراث الفكري الذي سبق الحبيب بورقيبة الذي سيسجّل له التاريخ انّه كان في مستوى اللحظة الفارقة التي احتاجها شعبه ، بل لعله التقطها قبل أوانها ، بحيث خطا بالمجتمع خطوات عملاقة في طريق التقدم و الرقي والانتصار لكرامة المراة بشكل خاص و الانسان بشكل عام.

نزع القانون التونسي من الزوج حق طلاق الزوجة بمجرّد كلمة او نزوة ، لا يكون ابغض الحلال عند الله الا من خلال حكم قضائي ، تصدره هيئة قضائية مدنية . بالتالي تمّ الغاء المحاكم الشرعية بما نتج عنه توحيد النظام القضائي التونسي.

كما ، خلافا للإجراء المماثل الذي سبق ان اتخذه كمال أتاتورك في تركيا ، بالقطع الكامل مع الإرث التشريعي الإسلامي ، واعتماد القانون السويسري ، فضل الحبيب بورقيبة أن يكون مشروعه الاصلاحي في سياق اجتهاد و قراءة تنويرية عصرية للإسلام.

لهذا لم تولد مجلة الأحوال الشخصية من فراغ بل هي ثمرة وتتويج مسار إصلاحي يوفي لهويَة البلاد و ارثها الحضاري العريق.

يستحضر مجد ” أروى القيروانية ” ، هذه المرأة التي ألزمت خليفة المسلمين ابا جعفر المنصور بأول عقد يمنع تعدد الزوجات في تاريخ الإسلام ، ليخلد التاريخ ما يعرف اليوم ب” عقد صداق الزواج القيرواني”.

كان أبو جعفر المنصور قد لجأ الى القيروان بعد أن لاحقه جنود بني أمية ، لأنه اقتفى خطى اخويه الكبيرين إبراهيم ، المعروف بالإمام ، وابي العباس الذي اشتهر فيما بعد باسم ” السفاح ” ، فجرى مجراهما في دعوى استحقاق الخلافة ، ثارت ثائرة بني امية عليه وأصبحت حياته مهددة ، قصد في أوائل العقد الثالث من القرن الثاني للهجرة مدينة القيروان ، نزل عند منصور بن يزيد الحميري أحد كبار التجار بالمدينة.

كانت لهذا التاجر ابنة فائقة الجمال والذكاء اسمها اروى ، كانت متعلمة ومتشبعة بقراءة الكتب الفقهية والعلمية والفلسفية والترجمات التي ازدانت بها مكتبات مدينة القيروان حيث بيت الحكمة.

انبهر ابو جعفر ، بجمالها ونباهتها ، طلب يدها من ابيها قصد الزواج ، لكن اروى وضعت شرطا للموافقة وللقبول به زوجا ، كان لهذا الشرط اثره البعيد للغاية ، كان شرطها ، الا يتزوج عليها أبو جعفر المنصور و الا يملك عليها جواري ، و الا فيمكنها في مثل هذه الحالة ان يكون طلاقها بيدها على عادة اهل القيروان ، كان الجميع يعتبر مثل هذا الشرط مجحفا في ذلك الوقت، لكن شغف أبا جعفر بأروى وعشقه لها جعله يوافق دون تردد.

لكن بعد موت أخيه عبد الله ” السفاح ” الذي ظفر بمناصرة ابي مسلم الخراساني للدولة العباسية وسقوط الدولة الأموية ، يتولى ابو جعفر المنصور الخلافة ، و يبني مدينة بغداد التي كان يطلق عليها في البداية اسم مدينة المنصور، بعد تركيزه اسس الدولة حاول أبو جعفر المنصور التملص من شرط زواجه من اروى القيروانية ، لاتخاذه الجواري على عادة الخلفاء ، لكنه فشل في كل مرة ، يقول ابوعثمان الجاحظ في كتاب ” المحاسن والأضداد ” ، ان أبا جعفر المنصور ظل 10 سنوات في سلطانه يكتب الى الفقهاء في الحجاز والشام ، بذل كل جهده حتى يفتيه احدهم بالزواج من أخرى ، او حتى اتخاذ الجواري ، لكن اروى القيروانية كانت له بالمرصاد ، اذ كانت دائما تسبق زوجها بخطوة وترسل المال الى العلماء والى الشيوخ لمنع المنصور من الزواج باخرى والحفاظ على عهده حتى توفاها الاجل المحتوم ليصبح بعد ذلك أبو جعفر المنصور في حل من التزامه بهذا العقد.

تلك هي ” اروى القيروانية ” ، المرأة  التي جعلت الخليفة يبقى على العهد الذي قطعه معها ويلتزم بشرط الصداق وهو على كرسي خلافة المسلمين ، ” لا امرأة لاحقة ، والا فأمرها بيدها ” ، كان يمكن للخليفة المنصور ان يتخذ زوجة أخرى او حتى جارية ، لكنه كان يخشى ان تطلقه فامتنع عن ذلك مادامت هي حيّة.

ان ” اروى القيروانية ” بالنسبة للنساء التونسيات المثال و المدرسة التي سرت على نهجها المرأة التونسية رغم التعثرات التي عرفها المجتمع .
بقيت اروى ساكنة في الوجدان ” ايقونة و قدوة ” تهفو اليها القلوب الى حين ظهر المصلح و نصير المراة هو الآخر الطاهر الحداد سنة 1930 م ليعلن مؤلّفه “امراتنا في الشريعة والمجتمع” ، كتاب اكد فيه على ضرورة مزيد النهوض بوضعية المرأة ، دعا الى الغاء تعدد الزوجات.

تزامن ذلك مع بروز مدّ اصلاحي اجتماعي شهده الثلث الأول من القرن العشرين سمته اساسا ظهور حركة نسوية قوية تزعمتها امراة بشيرة بن مراد و هي ابنة شيخ زيتوني ( نسبة لجامع الزيتونة ) تصدى بقوَة للطاهر الحداد شهّر به الى حدّ تكفيره.

مع العلم ان بعض مشايخ الزيتونة ساندوا هذه الحركة النسوية في اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ميلادي.

لم يكن الرّاحل الحبيب بورقيبة سوى زعيما وطنيا مخلصا لتراث فكري واصلاحي ، فما ان آل اليه الحكم ونظرا للشرعية النضالية التاريخية التي كان ينعم بها . حتى سارع الى تتويج هذا المسار الفكري والاجتماعي الضارب في عمق تاريخ البلاد ، بتكليف شيخ زيتوني آخر يحظى باجماع المؤسسة الدينية و هو محمد الفاضل بن عاشور ، ليكلّفه بصياغة مشروع القانون الجديد الذي استلهم الكثير من الاحكام الشرعية الاسلامية الراجعة الى المذهب المالكي.

بمعنى ان الزعيم الحبيب بورقيبة وضع الفقه الإسلامي في موقف غير متعارض مع خدمة وتطور الحياة ، و ذلك بدل من ان يجعله مكبلا لتطوّر و رقي الشعوب ، هذا يدل على اتباع الحبيب بورقيبة منهج الاجتهاد والتحديث الذي لا يتضارب مع روح الدين الإسلامي الذي دعا الى المساواة والعدالة.

ان حال مجتمعاتنا العربية والإسلامية يتطلب ان يسخّر ديننا الحنيف من خلال اعمال العقل والاجتهاد لمساعدة شعوبنا في مساعيها التنموية و الاصلاحية .
لم يناد الزعيم الحبيب بورقيبة ، كما يروج البعض يوما الى اقصاء الدين ، لانه كان يعلم جيدا أن تهميش الدين هو الذي سيمكّن و يسمح بظهور اكثر التيارات الدينية تشددا و رجعية.

لم يناد الزعيم الحبيب بورقيبة ، كما يروج البعض يوما الى اقصاء الدين ، لانه كان يعلم جيدا أن تهميش الدين هو الذي سيمكّن و يسمح بظهور اكثر التيارات الدينية تشددا ورجعية.

ألم يقل ، انّ المرأة في الواقع هي المدرسة الأولى التي تتكون فيها شخصية الشعوب؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى