عصر التفاهة.. وخدش الحياء..؟!
بقلم/ على الصاوي
حين تغرب شمس الثقافة، ويفسد الذوق العام، وتتراجع فنون الأدب وتتدنى الأخلاق في مجتمع ما، يصبح الأقزام في أحجام العمالقة، ويخفت صوت العُقلاء ويعلو صوت الجُهلاء وتسود السطحية، ومن هنا تتبدّل المعايير وتتغيّر المفاهيم عند العوام؛ فيضعون الصغير مكان الكبير، والجاهل مكان العالم، ويقدمون التفاهة على القيمة، فتنشأ أجيال لديها شعور راسخ أن التدنّي والرداءة هما القاعدة وغيرهما استثناء، والسبب هو مسخ القدوة التي تتصدر شاشات الإعلام الذي يشكل وعي الأجيال ويؤثر في ثقافتهم وصناعة سلوكياتهم.
فما لا يُدركه الناس أن التربية بالقدوة سواء كانت حسنة أو سيئة يكون لها بالغ الأثر على الأخلاق والقيم التي ترسم ملامح الأجيال في المستقبل، فحين يفسد النبت، وتروى البذرة بماء غير صالح تموت الأغصان وتذبل الثمار، وهذا هو الحصاد المر الذي سيجنيه الوطن في المستقبل، إن بقي نجوم المهرجانات الشعبية والفن الهابط الفارغ من كل قيمة محط الاهتمام والاقتداء في المجتمع.
فبعد الضجة الكبيرة التي أحدثتها أغاني المهرجانات الشعبية في مصر، وما بها من كلمات تخدش الذوق العام وتخالف أعراف المجتمع، والتي تعكس طبيعة العصر ورداءته على كافة الأصعدة، عدت بالذاكرة للوراء قليلا، مستحضرا ما قاله الكاتب الكندي “ألان دونو” في كتابه “عصر التفاهة” الذي تطرق فيه إلى قضية ظهور نماذج تافهة في المجتمعات وسيطرتها على العالم وكيف حسموا المعركة لصالحهم، على حساب النماذج الناجحة وأصحاب المواهب الحقيقية، ليس في السياسة فحسب بل في كل شيء، في الفن والرياضة والتعليم وغيرها من المجالات الأخرى، وهذا ما سوف أتناوله في هذه المقالة، للوقوف على الأسباب الحقيقية وراء انحدار الذوق العام في مصر وظهور أشباه المواهب وخفافيش الفن والأدب تسرح وتمرح دون رقيب أو حسيب.
يشخص “ألان دونو” في كتابه، حالة الغربة التي تعيشها النخب والمواهب في مجتمعاتها وسط هذا الغثاء من الإسفاف والرداءة، ويُقدم لهم نصيحة بقوله “لا داعي لهذه الكتب المعقّدة، لا تكن فخورا ولا روحانيا، فهذا يُظهرك متكبرا، لا تُقدم أي فكرة جيدة، فستكون عُرضة للنقد، لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وانحلال، عليك أن تكون قابلا للتعليب، لقد تغيّر الزمن، وأصبح التافهون يسيطرون على كل شيء”.
يُدرك المتابع للشأن العام في مصر أن قيم الدين والأخلاق تراجعت عن ذي قبل، وتقدمت عليها قيم الغرائز ونشر الكراهية، في صورة تعكس طبيعة المرحلة وفلسفة إدارة السلطة، التي لا تضن أي جهود لتهيئة المناخ الاجتماعي، وتشكيل السياقات العامة لظهور أعمال رديئة وضعيفة الجودة كأمر طبيعي لخدمة أهداف سياسية وتحويل الأنظار عن المشاكل الحقيقية التي يعيشها المواطن ويشكو منها المجتمع، ففي كتاب أسلحة صامتة لخوض حرب هادئة تناول نعوم تشومسكي 10 استراتيجيات ناعمة للسيطرة على الجماهير، من ضمنها استراتيجية “الإلهاء” التي تقول :”حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، اجعلوه مفتونا بمسائل لا أهمية حقيقية لها، أبقوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا، لا وقت لديه للتفكير، وعليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات”، وهذا أهم رافد بالنسبة للسلطة من وراء بروز هذه القضايا في المجتمع وتضخيم أبطالها وكأنها قضايا أمن قومي.
الأمر الآخر هو فساد الأذواق عند الجماهير التي تعودت على استساغة الرداءة وشجعت هذه الطفيليات على النمو والتضخم في المجتمع، في مقابل تهميش الآخرين عن عمد أحيانا وعن جهل أحيانا أخرى.
وفي إحدى كتبه تطرق د. مصطفى محمود لهذه الظاهرة حيث قال: “منذ 5 آلاف سنة كانت الراقصة تكسب أكثر من الكاتب، والطبّال يكسب أكثر من الخباز والنجاز والحداد، ولو أنك دعوت أينشتاين اليوم لندوة علمية ثم دعوت امرأة عارية لحديث إعلامي لترك الجمهور أينشتاين وعلمه ولتجمّعوا حول المرأة العارية بالألوف، وهذا ليس ذنبنا، وإنما سببه أن أكثر الناس من البهم، ومن أهل الهوى، ومن عبيد الشهوات، وهم بذلك يشجعون التافه من الأمور وينصرفون عن الجاد.”
ومن هنا تكمن المأساة، فالناس تستسيغ التفاهات، لأنها تعطّل الحواس وتخدر النفس وتفصلها عن واقع المسؤولية والإحساس بالذات، وفي هذا العصر زادت الآلة الإعلامية الساحرة تلك العادات رسوخا في النفس، بعدما فرضت علينا هذه النماذج وقدمت لنا كتالوجا كبيرا من تنوع الفن الهابط وأشباه المواهب في كل المجالات، فأصبح فن الغرائز هو المهيمن، فكثر متابعوه وزاد أصحابه ثراءً وشهرة، بينما الفنون الراقية والأدب الهادف والعلوم الثقافية تحولت إلى بضاعة كاسدة، انصرف عنها الناس، وتدهور حال أصحابها فقرا واحتياجا، وهذه نتيجة حتمية حين تفسد أذواق الجماهير وتتعطل عقولهم.
في النهاية لا بد أن نقاوم كما يقول “ألان دونو” في كتابه، أن نرفض، نخاصم التفاهة وننكرها، نعيد للفضائل معانيها، ونجدد الثقة بذواتنا وبمعاني الجهد، الكد، والموهبة لنعيد للأشياء جمالها، إن التحرر من سيطرة التفاهة مسؤولية الجميع إذا ما أرادوا إنقاذ الإنسان الأخير، فالمسؤولية عن إنقاذ الذات هي في النهاية مسؤولية عن إنقاذ الكل، فعندما نقول إن الإنسان مسؤول عن نفسه لا نعني أن الإنسان مسؤول عن وجوده الفردي فحسب، بل هو بالحقيقة مسؤول عن جميع الناس وكل البشر.